الاختصار لمذاهب الأئمَّة في التَّعريف عشيَّة
عرفة بالأمصار
بقلم: عبد الله محمَّد سعيد الحسيني
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام
على سيِّد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا بحثٌ موجزٌ عن مسألة التَّعريف عشيَّة عرفة
بالبلدان والأمصار من حيث معناه، ومذاهب الأئمَّة فيه.
أولًا: معنى التَّعريف عشيَّة عرفة بالبلدان:
هو اجتماع النَّاس في بعض البلدان والأمصار بعد
عصر يوم عرفة، والأخذ في الدُّعاء والثَّناء والذِّكر والضَّراعة إلى الله تعالى
إلى غروب الشَّمس، كما يفعل أهل عرفة بمكَّة المكرَّمة. (1)
ثانيًا: مذاهب الأئمَّة في التَّعريف عشيَّة عرفة
بالبلدان:
التَّعريف نوعان:
التَّعريف الأوَّل: هو مشابهة أهل عرفة من
كلِّ وجه، كالتَّجرُّد عن المخيط وكشف الرَّأس والتَّلبية والوقوف ونحو ذلك، أو
تخصيص بقعة بعينها للتَّعريف فيها وشدّ الرِّحال إليها، كالمسجد الأقصى، أو عند
المشاهد، أو رفع الأصوات في المساجد بالدُّعاء والذِّكر
والغناء والرَّقص والتَّصفيق والصِّياح والتَّباكي واختلاط الرِّجال
بالنِّساء، وجعل جميع ذلك من سُنَّة اليوم وشعائر الدِّين مضاهاةً لأهل عرفة.
فهذا التَّعريف باطلٌ لا أصل له، وبدعةٌ شنيعةٌ
مُنكرةٌ محرَّمةٌ باتِّفاق الأئمَّة، وينبغي على وُلاة الأمر منعهُ
وإزالتهُ. (2)
التَّعريف الثَّاني: هو
قصد مساجد البلد بعد عصر يوم عرفة للدُّعاء والذِّكر والعبادة إلى غروب
الشَّمس؛ تعرُّضًا لنفحات الله تعالى، واغتنامًا
لفضائل اليوم. (3)
فهذا التَّعريف ممَّا
اختلف فيه الأئمَّة:
فكرهه جماعة،
منهم: أبو وائل شقيق بن سلمة (4)، وإبراهيم بن يزيد
النّخعي (5)، وعمر بن عبد العزيز (6)،
وعامر بن شراحيل الشّعبي (7)، ونافع مولى عبد الله بن عمر (8)،
وعطاء بن أبي رباح (9)، والحكم بن عتيبة الكندي، وحمَّاد بن أبي
سليمان (10)، وأبو حنيفة (11)،
وسفيان بن سعيد الثَّوري (12)، ومالك بن أنس (13)،
واللَّيث بن سعد (14)، ومحمَّد بن الحسن الشَّيباني (15)،
وغيرهم (16)، وقالوا: إنَّه بدعةٌ
محدثةٌ، لم يثبت فيه شيءٌ عن النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (17)،
وهذا مذهب جماعة من الحنفيَّة (18)، والمالكيَّة (19)،
والشَّافعيَّة (20).
وهذا القول وجيهٌ.
ورخَّص فيه آخرون،
منهم: عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما (21)، وعمرو بن حريث رضي
الله عنه (22)، وسعيد بن المسيّب (23)،
وبكر بن عبد الله المزني (24)، والحسن البصري (25)،
ومحمَّد بن سيرين (26)، ومحمَّد بن واسع (27)،
وزبيد بن الحارث (28)، وثابت بن أسلم البناني (29)،
وغيلان بن جرير (30)، وأشهب بن عبد العزيز (31)، وأحمد
بن حنبل (32)، ويحيى بن معين (33)،
وغيرهم، وقالوا: إنَّه دعاءٌ وخيرٌ، فَعَلَهُ ابن
عبَّاس رضي الله عنهما بالبصرة حين كان خليفةً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم
يُنكر عليه، وما يُفعل في عهد الخلفاء الرَّاشدين من غير إنكار لا يكون بدعة (34)،
وهذا مذهب الحنابلة (35)، وجماعة من الحنفيَّة (36)،
والمالكيَّة (37)، والشَّافعيَّة (38).
وهذا القول سائغٌ ثابتٌ
عن بعض الصَّحابة، واختاره جماعة من أئمَّة السَّلف، فلا يُنكَرُ على مَن عمل
بمقتضاه، لأنَّه ممَّا يسوغ فيه الاجتهاد (39)، ولا شكَّ أنَّ مَن جعله بدعة لا يُلحقه بفاحشات
البدع، بل يخفِّف أمره بالنِّسبة إلى غيره (40).
وأختمُ بفائدةٍ جليلةٍ ذكرها الإمام النَّووي
رحمه الله تعالى حول أهميَّة الإكثار من الذِّكر والدُّعاء في يوم عرفة
وصفته، فقال ما نصُّه (41):
(قد قدَّمنا في أذكار
العيد حديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (خَيْرُ الدُّعاءِ يَوْمَ عَرَفَة،
وَخَيْرُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ على كُلّ شيء
قَدِيرٌ).
فيُستحبُّ الإِكثارُ من
هذا الذِّكر والدُّعاء، ويَجتهدُ في ذلك، فهذا اليوم أفضلُ أيَّام السَّنة
للدُّعاء، وهو مُعظم الحج، ومقصودُهُ، والمُعوَّل عليه.
فينبغي أن يستفرغَ
الإِنسانُ وُسعَهُ في الذِّكر والدُّعاء، وفي قراءة القرآن، وأن يدعوَ بأنواع
الأدعية، ويأتي بأنواع الأذكار، ويدعو ويذكر في كلِّ مكان، ويدعو مُنفردًا، ومع
جماعة، ويدعو لنفسه، ووالدَيه، وأقاربه، ومشايخه، وأصحابه، وأصدقائه، وأحبابه،
وسائر مَن أحسن إليه، وجميع المسلمين.
وليحذر كلَّ الحذرِ من
التَّقصير في ذلك كلِّه، فإنَّ هذا اليوم لا يُمكن تداركُهُ، بخلاف غيره.
ولا يتكلَّفُ السَّجعَ
في الدُّعاء، فإنّه يُشغل القلبَ، ويُذهبُ الانكسار، والخضوعَ، والافتقار،
والمسكنة، والذِّلَّة، والخشوع، ولا بأس بأن يدعوَ بدعواتٍ محفوظة معه له أو غيره
مسجوعة إذا لم يشتغل بتكلِّف ترتيبها ومراعاة إعرابها.
والسُّنَّة أن يخفضَ
صوتَه بالدُّعاء، ويُكثر من الاستغفار والتلفُّظ بالتَّوبة من جميع المخالفات، مع
الاعتقاد بالقلب، ويُلحُّ في الدُّعاء، ويكرِّره، ولا يستبطئ الإِجابة،
ويفتتح دعاءه ويختمه بالحمد لله تعالى والثَّناء عليه سبحانه وتعالى، والصَّلاة
والتَّسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليختمه بذلك، وليحرِص على أن يكون
مستقبلَ الكعبة وعلى طهارة) ا.هـ
هذا والله تعالى أعلم.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه
وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
--------------------------------
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (45/335).
(2) حاشية ابن عابدين (2/177)، وكتاب الحوادث والبدع (ص 259-260)
للطرطوشي، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي (1/309)، والباعث على إنكار البدع
والحوادث (ص 110-115) لأبي شامة، وهداية السالك (ص 1171) لابن جماعة، واقتضاء
الصراط المستقيم (2/151-153) لابن تيمية، ومنار السبيل (1/155) لابن ضويان.
(3) الموسوعة الفقهية الكويتية (12/252).
(4) روى ابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع (ص 103) بإسناد صحيح
(أنه كان لا يأتي المسجد عشية عرفة)، وروى ابن أبي شيبة في المصنف (8/419) بإسناد
صحيح إلى الأعمش قال: (رأيتُ أبا وائل وأصحابنا يجلسون يوم عرفة، فيتحدثون كما
كانوا يتحدثون في سائر الأيام).
(5) روى ابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع (ص 102) بإسناد صحيح إلى
ابن عون قال: (شهدتُ إبراهيم النخعي سُئل عن اجتماع الناس عشية عرفة، فكرهه، وقال:
مُحدَث)، وروى عبد الرزاق في المصنف (4/378-379) بإسناد صحيح (أنه كان يرى الناس
يعرِّفون في المسجد بالكوفة، فلا يعرِّف معهم)، وروى ابن أبي شيبة في المصنف
(8/420) بإسناد صحيح (أنه سئل عن التعريف فقال: إنما التعريف بمكة)، وانظر: مسند
ابن الجعد (278)، ومصنف ابن أبي شيبة (8/420).
(6) روى ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/31-32) من طريق معاوية بن
الريان (أن عمر بن عبد العزيز يوم عرفة لما صلى العصر انصرف إلى منزله، ولم يقعد
للناس، وهو إذ ذاك خليفة)، ورواه من طريق آخر عنه قال: (خرجت مع سهل بن عبد العزيز
إلى أخيه عمر بن عبد العزيز حين استخلف فحصر، فلما كان يوم عرفة، صلى عمر العصر،
فلما فرغ انصرف إلى منزله، فلم يخرج إلا إلى المغرب).
(7) روى ابن أبي شيبة في المصنف (8/421) بإسناد صحيح إلى جابر عن
عامر والحكم قالا: (المعرَّف بدعة)، وانظر: (8/420).
(8) روى ابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع (ص 102) بإسناد صحيح إلى
أبي حفص المدني قال: (اجتمع الناس يوم عرفة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
يدعون بعد العصر، فخرج نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر، فقال: أيها الناس، إن
الذي أنتم عليه بدعة، وليست بسنة، إنا أدركنا الناس ولا يصنعون مثل هذا، ثم رجع
فلم يجلس، ثم خرج الثانية ففعل مثلها، ثم رجع).
(9) روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب أبيه الزهد (ص 305)، ومن
طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء (3/314) بإسناد صحيح إلى عمر بن الورد قال: (قال
لي عطاء: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة، فافعل).
(10) روى ابن الجعد في المسند (277)، وابن أبي شيبة في المصنف
(8/420)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/191) بإسناد صحيح عن شعبة قال: (سألتُ الحكم
وحمادًا عن اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد، فقالا: هو مُحدَث)، وانظر رقم (6).
(11) قال تلميذه محمد بن الحسن الشيباني في الآثار (1/339):
(أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: أنَّه لم يكن يخرج يوم عرفة من منزله،
وقال أبو حنيفة: التَّعريف الذي يصنعه الناس يوم عرفة مُحدثٌ، إنما التَّعريف
بعرفات، قال محمد: وبه نأخذ).
(12) روى ابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع (ص 102) بإسناد صحيح
أنه قال: (ليس عرفة إلا بمكة، ليس في هذه الأمصار عرفة).
(13) في النوادر والزيادات (1/531) لابن أبي زيد القيرواني: (من
العتبية، ابن القاسم، عن مالك: وأكره أن يجلس أهل الآفاق يوم عرفة في المساجد
للدعاء، ومن اجتمع إليه الناس يومئذ، فيكبرون ويدعون، فلينصرف عنهم، ومقامه في
منزله أحب إلي، فإذا حضرت الصلاة، رجع فصلى في المسجد)، ونحوه في البيان والتحصيل
(1/274، 362-363 ، 376-377) ، (2/324)، (17/121) لابن رشد، وفي كتاب الحوادث
والبدع (ص 257-258) للطرطوشي: (قال ابن وهب: سألتُ مالكًا عن الجلوس يوم عرفة،
يجلس أهل البلد في مسجدهم، ويدعو الإمام رجالًا يدعون الله تعالى للناس إلى غروب
الشمس؟ فقال: ما نعرف هذا، وإن الناس عندنا اليوم ليفعلونه، قال ابن وهب: وسمعتُ
مالكًا يسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر، واجتماعهم للدعاء؟
فقال: ليس هذا من أمر الناس، وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع .. قال مالك بن
أنس: ولقد رأيتُ رجالًا ممن أقتدي بهم يتخلفون في عشية عرفة في بيوتهم، قال: وإنما
مفاتيح هذه الأشياء من البدع، ولا أحب للرجل الذي قد علم أن يقعد في المسجد في تلك
العشية، مخافة أن يقتدوا به، وليقعد في بيته).
(14) في كتاب الحوادث والبدع (ص 259) للطرطوشي: (قال الحارث بن
مسكين: كنتُ أرى الليث بن سعد ينصرف بعد العصر يوم عرفة، فلا يرجع إلى قرب
المغرب).
(15) قال في الجامع الصغير (ص 115): (والتعريف الذي يصنعه الناس
ليس بشيء)، ونقل في الآثار (1/339) كلام شيخه أبي حنيفة أنه مُحدثٌ، ثم قال: (وبه
نأخذ).
(16) روى البخاري في التاريخ الكبير (2/301) عن الحسن بن عطية
الكوفي عن إسرائيل عن إسماعيل بن سلمان الأزرق عن دينار أبي عمر عن ابن الحنفية عن
علي رضي الله عنه قال: (لا عرفة إلا بعرفات)، ثم قال: قاله لي الحسن بن عطية سمع
إسرائيل، وقال وكيع: عن إسماعيل الأزرق عن أبي عمر: عن ابن الحنفية قوله، انتهى،
وراوية وكيع هذه في مصنف ابن أبي شيبة (8/420) عن ابن الحنفية بلفظ: (إنما المعرف
بمكة)، وإسماعيل الأزرق: ضعيف، انظر: تهذيب التهذيب (1/303-304).
(17) اقتضاء الصراط المستقيم (2/151) لابن تيمية، والموسوعة
الفقهية الكويتية (12/252)، قال الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع (ص
259-260): (فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن
علموا أن ذلك بموطن عرفة لا في غيرها، ولا منعوا من خلا بنفسه فحضرته نيَّة صادقة
أن يدعو الله تعالى، وإنما كرهوا الحوادث في الدِّين، وأن يظن العوام أن من سُنَّة
يوم عرفة الاجتماع بسائر الآفاق والدعاء، فيتداعى الأمر إلى أن يدخل في الدين
ما ليس منه، وقد كنتُ ببيت المقدس، فإذا كان يوم عرفة، حشر أهل السواد وكثير
من أهل البلد، فيقفون في المسجد مستقبلين القبلة مرتفعة أصواتهم بالدعاء، كأنه
موطن عرفة، وكنتُ أسمع هناك سماعًا فاشيًا منهم أن من وقف ببيت المقدس أربع
وقفات، فإنها تعدل حجة، ثم يجعلونه ذريعة إلى إسقاط فريضة الحج إلى بيت الله
الحرام).
(18) في حاشية ابن عابدين (2/177): "قوله في غيرها" أي:
غير عرفة، وأراد بها المكان تجوزًا، والمراد كما في شرح المنية اجتماعهم عشية يوم
عرفة في الجوامع أو في مكان خارج البلد يتشبهون بأهل عرفة. اهـ. قوله: "وقيل:
يستحب" لعله المراد من قول النهاية: وعن أبي يوسف ومحمد في غير رواية الأصول
أنه لا يكره لما روي أن ابن عباس فعل ذلك بالبصرة، قال في الفتح: وهذا يفيد أن
مقابله من رواية الأصول الكراهة، ثم قال: وهو الأولى حسمًا لمفسدة اعتقادية تتوقع
من العوام ونفس الوقوف وكشف الرؤوس يستلزم التشبه وإن لم يقصد فالحق أنه إن عرض
للوقوف في ذلك اليوم سبب يوجبه كالاستسقاء مثلا لا يكره، أما قصد ذلك اليوم
بالخروج فيه فهو معنى التشبه إذا تأملت، وفي جامع التمرتاشي: لو اجتمعوا لشرف ذلك
اليوم جاز يحمل عليه بلا وقوف وكشف ا.هـ، والحاصل أن الصحيح الكراهة كما في الدرر بل في
البحر أن ظاهر ما في غاية البيان أنها تحريمية وفي النهر أن عباراتهم ناطقة بترجيح
الكراهة وشذوذ غيره)، وانظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (45/335).
(19) في التاج والإكليل لمختصر خليل (2/366) للمواق: ("واجتماع
لدعاء يوم عرفة": سُئل مالك عن الجلوس بعد العصر في المساجد بالبلدان يوم
عرفة للدعاء، فكره ذلك.، ابن رشد: كرهه، وإن كان الدعاء حسنًا وأفضله يوم عرفة؛
لأن الاجتماع لذلك اليوم بدعة)، وانظر: كتاب الحوادث والبدع (ص 257-258) للطرطوشي،
والموسوعة الفقهية الكويتية (45/335).
(20) قال النووي في المجموع (8/117)، والإيضاح (ص 294): (التعريف
بغير عرفات، وهذا هو الاجتماع المعروف في البلدان، اختلف العلماء فيه، فجاء عن
جماعة استحبابه وفعله، فقد روي عن الحسن البصري أنه قال: أول من صنع ذلك ابن عباس
رضي الله عنهما، وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن التعريف في
الأمصار فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، وقد فعله غير واحد: الحسن، وبكر، وثابت،
ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة، وكرهه جماعة، منهم: نافع مولى ابن
عمر، وإبراهيم النخعي، والحكم، وحماد، ومالك بن أنس، وغيرهم، وصنَّف الإمام
أبو بكر الطرطوشي المالكي الزاهد كتابًا في البدع المنكرات، وجعل منها هذا
التعريف، وبالغ في إنكاره، ونقل أقوال العلماء فيها، ولا شكَّ أن من جعلها بدعة لا
يلحقها بفاحشات البدع، بل يخفف أمرها بالنسبة إلى غيرها)، وانظر: الباعث لإنكار
البدع والحوادث (ص 110-115) لأبي شامة، ونُسب هذا القول في الموسوعة الفقهية
الكويتية (45/335) إلى جمهور الفقهاء من الحنفيَّة والمالكيَّة، وهو اختيار ابن
باز في مجموع فتاويه (17/272-275)، والألباني في حجة النبي صلى الله عليه
وسلم كما رواها جابر رضي الله عنه (ص 128)، وابن عثيمين في الشرح الممتع على
زاد المستقنع (5/171-172)، وغيرهم من المعاصرين.
(21) روى عبد الرزاق في المصنف (4/376)، وابن الجعد في المسند
(279) و(987)، وابن أبي شيبة في المصنف (19/600)، بإسناد صحيح إلى الحسن البصري
قال: (أول من صنع ذاك ابن عباس، يعني: اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد)، وفي
لفظ: (أول من عرَّف بالبصرة ابن عباس)، وروى عبد الرزاق في المصنف (4/377)،
وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/367) بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: (أول من
عرَّف بأرضنا ابن عباس، كان يتَّعد عشية عرفة، فيقرأ القرآن البقرة يفسِّرها آيةً
آيةً)، وروى أبو عروبة الحراني في الأوائل (ص 138) تحت عنوان: أوَّل من عرِّف بغير
مكَّة بإسناد صحيح إلى محمد بن سيرين قال: (أوَّل من عرَّف ها هنا ابن عباس رحمة
الله عليه)، قال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص 114): (فإنَّ ابن
عباس رضي الله عنهما حضرته نيَّة، فقعد، فدعا، وكذلك الحسن من غير قصدٍ لجمعيَّة،
ومضاهاةٍ لأهل عرفة، وإيهامٍ للعوام أن هذا شعار من شعائر الدين، والمنكر إنمَّا
هو ما اتصف بذلك، والله أعلم، على أنَّ تعريف ابن عباس قد صار على صورة أخرى غير
مُستنكرة، ذكر أبو محمد ابن قتيبة في غريبه قال في حديث ابن عباس أن الحسن ذكره،
فقال: كان أول من عرف بالبصرة، صعد المنبر، فقرأ البقرة وآل عمران، وفسَّرهما
حرفًا حرفًا، فتعريف ابن عباس كان على هذا الوجه، فسَّر للناس القرآن، فإنما
اجتمعوا لاستماع العلم، وكان ذلك عشية عرفة، فقيل: عرف ابن عباس بالبصرة، لاجتماع
الناس له كاجتماعهم بالموقف).
(22) روى ابن أبي شيبة في المصنف (8/419) بإسناد صحيح إلى موسى بن
أبي عائشة قال: (رأيتُ عمرو بن حريث يخطب يوم عرفة، وقد اجتمع الناس إليه).
(23) روى ابن أبي شيبة في المصنف (8/419) بإسناد صحيح إلى عبد
الرحمن بن حرملة (أنه رأى سعيد بن المسيب عشية عرفة مسندًا ظهره إلى المقصورة،
ويستقبل الشام حتى تغرب الشمس).
(24) ذكر ذلك أحمد بن حنبل كما في طبقات الحنابلة (1/67) لابن أبي
يعلى الفراء.
(25) روى البيهقي في السنن الكبرى (5/191) بإسناد صحيح عن أبي
عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري قال: (رأيتُ الحسن البصري يوم عرفة بعد العصر
جلس، فدعا، وذكر الله عز وجل، فاجتمع الناس)، وفي رواية: (رأيتُ الحسن خرج يوم
عرفة من المقصورة بعد العصر، فقعد، فعرَّف).
(26) روى ابن أبي شيبة في المصنف (8/420) بإسناد صحيح إلى ابن عون
قال: (كانوا يسألون محمدًا عن إتيان المسجد عشية عرفة، فيقول: لا أعلم به بأسًا،
فكان يقعد في منزله، فكان حديثه في تلك العشية حديثه في سائر الأيام).
(27) ذكر ذلك أحمد بن حنبل كما في طبقات الحنابلة (1/67، 217)
لابن أبي يعلى الفراء.
(28) روى ابن أبي شيبة في المصنف (8/420) بإسناد صحيح أنه قال: (ما
كنا نعرِّف إلا في مساجدنا).
(29) ذكر ذلك أحمد بن حنبل كما في طبقات الحنابلة (1/67) لابن أبي
يعلى الفراء.
(30) في الدر المنثور (1/555) للسيوطي: (أخرج المروزي عن مبارك
قال: رأيتُ الحسن، وبكر بن عبد الله، وثابتًا البناني، ومحمد بن واسع، وغيلان بن
جرير يشهدون عرفة بالبصرة).
(31) في ترتيب المدارك (3/268) للقاضي عياض: (قال سحنون: حضرنا
أشهب يوم عرفة بجامع مصر، وكان من حالهم إقامتهم بمسجدهم إلى غروب الشمس، يعني:
للذكر والدعاء كما يفعل أهل عرفة بها، وكان يصلي جالسًا، يعني: النافلة، وفي جانبه
صرة يعطي منها السوّال، فنظرتُ فإذا بيد سائل دينار مما أعطاه، فذكرته له، فقال
لي: وما كنا نعطي من أول النهار)، وانظر: التاج والإكليل (2/366)، وشرح الزرقاني
على مختصر خليل (1/483)، ولوامع الدرر (2/343).
(32) في مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ
النيسابوري (1/94): (وسئل عن التعريف في القرى؟ فقال: قد فعله ابن عباس بالبصرة،
وفعله عمرو بن حريث بالكوفة، قال أبو عبد الله: ولم أفعله أنا قط، وهو دعاء، دعهم،
يكثّر الناس، قيل له: فنرى أن ينهوا؟ قال: لا، دعهم، لا ينهون، وقال مبارك: رأيت
الحسن، وابن سيرين، وناسًا يفعلونه، سألتُه عن التعريف في الأمصار؟ قال: لا بأس
به)، وفي طبقات الحنابلة (1/39) في ترجمة أبي طالب أحمد بن حميد:
(قال أبو طالب: قال أحمد: والتعريف عشية عرفة في الأمصار لا بأس به، إنما هو دعاء
وذكر الله عز وجل، وأول من فعله ابن عباس وعمرو ابن حريث، وفعله إبراهيم)، وفي
ترجمة أبي بكر أحمد بن محمد بن هانئ الأثرم (1/67): (قال الأثرم سألت أبا عبد الله
عن التعريف في الأمصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس،
فعله غير واحد، قال أبو عبد الله: الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون
المسجد يوم عرفة)، وفي ترجمة عبد الكريم بن الهيثم العاقولي (1/217): (قال: وسألتُ
أبا عبد الله عن التعريف بهذه القرى مثل جرجراي ودير العاقول؟ فقال: قد فعله ابن
عباس بالبصرة، وعمرو بن حريث بالكوفة، وهو دعاء، قيل له: يكثر الناس! قال: وإن
كثروا، هو دعاء، وخير، وقد كان يفعله محمد بن واسع، وابن سيرين، والحسن، وذكر
جماعة من البصريين)، وفي ترجمة يعقوب بن إبراهيم الدورقي (1/414): (قال يعقوب
الدورقي: سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يحضر في المسجد يوم عرفة؟ قال: لا بأس أن
يحضر المسجد، فيحضر دعاء المسلمين، قد عرَّف ابن عباس بالبصرة، فلا بأس أن يأتي
الرجل المسجد ،فيحضر دعاء المسلمين، لعل الله أن يرحمه، إنما هو دعاء)، وقال ابن
تيمية في مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة (ص 62): (وقد قيل عنه
-أي: عن الإمام أحمد-: أنه يستحب)، وعلَّق المرداوي في الإنصاف (2/441) على ذلك
فقال: (وهي من المفردات).
(33) في طبقات الحنابلة (1/414) في ترجمة يعقوب بن
إبراهيم الدورقي: (قال يعقوب: رأيتُ يحيى بن معين عشية عرفة في مسجد الجامع قد حضر
مع الناس، ورأيتُه يشرب ماء، ولم يكن بصائم)، وانظر: المغني (2/296) لابن قدامة.
(34) اقتضاء الصراط المستقيم (2/151) لابن تيمية، والموسوعة الفقهية
الكويتية (12/252).
(35) المغني (2/296)، والفروع (3/216) لابن مفلح، والإنصاف (2/441)
للمرداوي، وكشاف القناع (2/60) للبهوتي، والموسوعة الفقهية الكويتية (45/335).
(36) في حاشية ابن عابدين (2/177): (والحاصل أنَّ المكروه هو
الخروج مع الوقوف وكشف الرؤوس بلا سبب موجب كاستسقاء، أما مجرَّد الاجتماع فيه على
طاعة بدون ذلك فلا يكره).
(37) في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير (1/309): (قوله: "وإلا
فلا كراهة" أي: وإن لا يقصد التَّشبُّه بالحاج، ولا جعل ذلك من سُنَّة اليوم،
بل قصد اغتنام فضيلة الوقت، فلا كراهة ولو كان الاجتماع في المسجد).
(38) في حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج (3/297): (قوله إلى: "أنَّه
لا كراهة في التعريف": مُعتمدٌ، وهو جمع الناس يوم عرفة بعد صلاة العصر
للدعاء وذكر الله تعالى إلى غروب الشمس كما يفعل أهل عرفة)، وانظر: حاشية الشرواني
على تحفة المحتاج (4/108)، وفي الموسوعة الفقهية الكويتية (45/335) أنَّه يؤخذ
من عبارات الشَّافعيَّة، وهو اختيار عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الرَّحمن
الخضير في شرح الموطأ، وشرح كتاب التجريد الصريح، وشرح كتاب المناسك من زاد
المستقنع، وشرح منسك شيخ الإسلام ابن تيمية، وشرح كتاب الحج من صحيح مسلم، وسعد بن
تركي بن محمد الخثلان في لقاء معه على قناة المجد وغيرهما من المعاصرين.
(39) قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/281-282)، وقاعدة جليلة في
التوسل والوسيلة (ص 222-223): (وتعريف ابن عباس بالبصرة، وعمرو بن حريث بالكوفة،
فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم
شرعه لأمته لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه
اجتهاد الصحابة، أو مما لا يُنكر على فاعله، لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا أنه
سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، أو يقال في التعريف: إنه لا بأس
به أحيانًا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة، وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله:
تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا
يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين، فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس لغيره أن يسن ولا يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون
فإنما سنوه بأمره فهو من سننه، ولا يكون في الدين واجبًا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا
إلا ما حرمه، ولا مستحبًا إلا ما استحبه، ولا مكروهًا إلا ما كرهه، ولا مباحًا إلا
ما أباحه).
(40) قال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص
114-115): (وعلى الجملة: فأمر التعريف قريبٌ إلا إذا جرَّ مفسدة، كما ذكره
الطرطوشي في التعريف ببيت المقدس، وقد قال الأثرم: سألتُ أحمد بن حنبل عن التعريف
في الأمصار يجتمعون يوم عرفة فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، قد فعله غير واحد،
الحسن، وبكر، وثابت، ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة، وفي رواية
قال أحمد: لا بأس به، إنما هو دعاء، وذكر لله، فقيل له: تفعله أنت؟ قال: أما أنا
فلا، ذكره الشيخ من موفق الدين في كتابه المغني)، وقال النووي في المجموع (8/117)،
والإيضاح (ص 294): (التعريف بغير عرفات، وهذا هو الاجتماع المعروف في البلدان،
اختلف العلماء فيه، فجاء عن جماعة استحبابه وفعله، فقد روي عن الحسن البصري أنه
قال: أول من صنع ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل
رحمه الله تعالى عن التعريف في الأمصار فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، وقد فعله
غير واحد: الحسن، وبكر، وثابت، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة، وكرهه
جماعة، منهم: نافع مولى ابن عمر، وإبراهيم النخعي، والحكم، وحماد، ومالك بن أنس،
وغيرهم، وصنَّف الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي الزاهد كتابًا في البدع
المنكرات، وجعل منها هذا التعريف، وبالغ في إنكاره، ونقل أقوال العلماء فيها، ولا
شكَّ أن من جعلها بدعة لا يلحقها بفاحشات البدع، بل يخفف أمرها بالنسبة إلى
غيرها).
(41) الأذكار (ص 333-334).