دلالة السَّالك لما بين
الإمام النَّووي وشيخه ابن مالك
بقلم: عبد الله محمَّد سعيد الحُسيني
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فمن أهمِّ آداب طالب العلم مع شيخه
ما عبَّر عنه الإمام أبو زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي
الدِّمشقي الشَّافعي (631 هـ - 676هـ) في غير موضعٍ بقوله [1]: (وينبغي أن يُعظِّم شيخَهُ، ومَن يَسمعُ
منه؛ فذلك من إِجلال العلم، وبه يُفتحُ على الإِنسان، وينبغي أن يعتقد جلالةَ شيخهِ
ورجحانه، ويتحرَّى رضاه، فذلك أعظم الطُّرق إلى الانتفاع به) ا.هـ، وقوله [2]: (وينبغي أن ينظرَ معلِّمهُ
بعين الاحترام، ويعتقدَ كمال أهليَّته ورجحانه على أكثر طبقته، فهو أقربُ إلى
انتفاعه به، ورسوخ ما سمعه منه في ذهنه) ا.هـ.
ونجد هذا الأدب الجمّ ماثلًا في
سيرة الإمام النَّووي مع شيوخه، منهم: شيخه الإمام، العلَّامة، شيخ النُّحاة، حُجَّة
العرب، أبو عبد الله جمال الدِّين محمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطَّائي
الجَيَّاني الشَّافعي (600 هـ - 672 هـ)، الذي أخذ عنه: اللُّغة، والنَّحو،
والتَّصريف، وقرأ عليه بعض تصانيفه، وعلَّق عليها [3].
فمن ذلك:
أوَّلًا: أنَّه كان يُثني عليه غاية
الثَّناء، فقال في (سؤالاته له ص 305-مجلَّة الحكمة): (سيّدنا، وشيخنا،
الإمام، العالم، العلَّامة، حُجَّة العرب، مالك أزمَّة الأدب، أوحد العلماء، سيّد
الفضلاء، جمال الدِّين، أمدَّ الله في عمره) ا.هـ، وقال في
(المجموع) (4/79): (شيخُنا أبو عبد الله ابن مالك، إمام العربيَّة في زماننا
بلا مدافعة)
ا.هـ، وقال
في (تهذيب الأسماء واللُّغات) (3/108): (شيخُنا جمال الدِّين ابن مالك
رضي الله تعالى عنه، وهو إمام أهل اللُّغة والأدب في هذه الأعصار بلا مدافعة) ا.هـ، وقال (3/449): (شيخُنا جمال الدِّين ابن مالك،
إمام أهل الأدب في وقته بلا مدافعة رضي الله تعالى عنه .. مع شدَّة معرفته،
وتحقيقه، وتمكُّنه، واطِّلاعه، وتدقيقه) ا.هـ، وقال في (شرح صحيح
مسلم) (15/238): (شيخُنا الإمام أبو عبد الله ابن مالك رحمه الله تعالى) ا.هـ،
ونحوه في (تحرير ألفاظ التَّنبيه) (ص 309).
ثانيًا: أنَّه
كان يُكثر من نقل الفوائد عنه -لا سيَّما من كتاب (المثلَّث)- في مصنَّفاته، ويصرِّح
بذلك، مثل: (تهذيب الأسماء واللُّغات) (3/105، 108، 171، 176، 259، 349، 394، 438،
449، 462، 482، 652)، و(شرح صحيح مسلم) (3/520)، و(15/238)، و(المجموع) (4/79)، و(تحرير
ألفاظ التَّنبيه) (ص 309).
ثالثًا: أنَّه كان يتوجَّه إليه بالسُّؤال
والاستفسار عن الإشكالات المتعلِّقة بلغة العرب، كما في أسئلته
المطبوعة وغيرها، وقد نَقَلَ في موضع من كتابه (تهذيب الأسماء واللغات) (4/59-60) عن
كتاب شيخه (المثلَّث)، ثمَّ صرَّح أنَّه سأله كذلك، وهذا يدلُّ على أنَّ ما بين
أيدينا من تلك الأسئلة هي مجرَّد نماذج منها.
***
ومن أهمِّ آداب الشَّيخ مع طلَّابه
ما عبَّر عنه الإمام النَّووي في غير موضعٍ، فقال [4] :(وينبغي للمعلِّم أن يُظهر فضل الفاضل، ويُثني عليه بذلك؛
ترغيبًا له وللباقين في الاشتغال والفكر في العلم، وليتدرَّبوا بذلك، ويعتادوه) ا.هـ، وقال [5]: (ويُثني على مَن
ظهرت نجابَتُهُ، ما لم يخش عليه فتنة بإعجابٍ أو غيره) ا.هـ.
ونجد هذا الأدب الجمّ ماثلًا في
سيرة الإمام ابن مالك مع تلميذه الإمام النَّووي.
فمن ذلك: ما ذَكَرَهُ العلاء ابن
العطَّار في (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) (ص
95)، فقال:
(وقال لي شيخُنا
العلَّامة حُجَّة العرب شيخ النُّحاة أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن مالك الجَيَّاني
-رحمه الله- وذَكَرَ "المنهاج" [6] لي
بعد أن كان وَقَفَ عليه:
"والله لو
استقبلْتُ مِن عُمري ما استدبرْتُ لحفظتُهُ".
وأَثنَى على حُسن اختصاره، وعُذوبة ألفاظه) ا.هـ.
أقولُ: وأيُّ ثناء أبلغ من هذا الصَّادر
من شيخٍ له هو مِن أعلام البلاغة وفصاحة اللِّسان وأحد أئمَّة اللُّغة وحُسن
البيان على متنٍ فقهيٍّ مذهبيٍّ.
***
تنبيه (1) [7]:
قال بعضهم: مِن هذا الباب كذلك ما
قاله الإمام ابنُ مالك في ألفيَّته: "وَرَجَلٌ مِنَ الكِرَامِ
عِنْدَنَا"، فقالوا: إنَّ المقصود به هو تلميذه الإمام النَّووي.
-قال محمَّد بن الطَّيِّب الفاسي (المتوفَّى
1170 هـ) في (فيض نشر الانشراح) (1/491):
(وقد
سمعتُ من جماعة من أشياخنا أنَّ النَّووي هو المرادُ بقول ابن مالك في "الخلاصة":
"وَرَجُلٌ مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا"؛ لأنَّه كان ضيفهُ في تلك اللَّيلة)ا.هـ.
-وقال
محمَّد بن مصطفى الخضري (المتوفَّى 1287 هـ) في (حاشيته على شرح ابن عقيل) (1/7):
(وكفاه شرفًا أنَّ ممَّن أخذ عنه: الإمام النَّووي رضي الله تعالى عنهما، ويُقال:
أنَّه عناهُ بقوله في المتن: "وَرَجُلٌ مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا")ا.هـ،
وقال (1/97): (قيل: أراد به الإمام النَّووي؛ لأنَّه تلميذ المصنِّف رضي الله
عنهما)ا.هـ.
-وقال أحمد بن محمَّد بن حمدون ابن الحاج (المتوفَّى
1316 هـ) في (الفتح الودودي على المكودي) (1/82): (وقد قيل: إنَّه لمَّا كان يؤلِّفُ
هذا المحل بات عنده الإمام النَّووي، فأشار له بهذا)
ا.هـ
-وقال محمَّد معصوم السّفاطوني (بعد 1326 هـ) في (تشويق
الخلَّان) (ص 522): (ومن تلاميذه: الإمام النَّووي رحمه الله تعالى، قيل: عناهُ في
قوله: "وَرَجُلٌ
مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا") ا.هـ.
أقولُ: في ثبوت هذا
المراد نظرٌ بيِّنٌ، وذلك لعدَّة أمور، منها:
أوَّلًا: أنَّه
لم يذكره العلاء ابن العطَّار في كتابه (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي
محيي الدِّين)، ويبعد جدًّا أن يكتفي بذكر ثنائه العطر على
"المنهاج"، ويغفل عن مثل هذا، لا سيَّما هو في مقام سرد المناقب
والفضائل، وتلميذٌ لهما معًا.
ثانيًا:
أنَّه لم يذكره أحدٌ ممَّن ترجم له من المتقدِّمين في كتبهم المُفردة أو غيرها.
ثالثًا:
أنَّه لم يذكره أحد من الشُّرَّاح المتقدِّمين للألفيَّة، وجُلُّ المتأخِّرين
ذكروه بصيغة الحكاية والتَّمريض، مثل: (يُقال) و(قيل) التي لها دلالتها.
رابعًا: ذَكَرَ بعضهم أنَّ مراده به تلميذه:
الإمام أبو عبد الله شمس الدِّين محمَّد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (المتوفَّى
709 هـ)، ففي (الفوائد المنتقاة من تحقيقات الدُّكتور عبد الرَّحمن العثيمين (المتوفَّى
1436 هـ)) (ص 75) لمؤلِّفه: ماجد بن حمَّاد السَّلماني أنَّه سأله عن ذلك، فقال: (الشَّافعيَّة
يقولون: إنَّه النَّووي، والحنابلة يقولون: إنَّه محمَّد بن أبي الفتح البعلي، وهو
أوَّل شارح للألفيَّة) ا.هـ، ولو أراد السَّادة الحنابلة نسبة تلك الحكاية له لكان
لهم حظٌّ من النَّظر، فقد وُصف في كتب التَّراجم بـ: شيخ العربيَّة والنَّحوي،
وإتقانه لهذا الفنِّ وبراعته فيه لملازمته لابن مالك وقراءته عليه، وأنَّه أوَّل
شارح لألفيَّته، وله فيه عدَّة مصنَّفات، ومع ذلك لم نقف على سند معتبر ولا مرجع
معتمد متقدِّم، لذلك نتوقَّف فيها.
وبهذا
يظهر أنَّه لم يُعرف إلَّا في القرن الثَّاني عشر الهجري، ولعلَّه من بعض
المتأخِّرين الذين أرادوا أن يُظهروا منقبة لعالِمٍ ينتسب إليهم، وأهل العلم في
غُنية عن ذلك، فما ثبت من مناقب الإمام النَّووي تفوق هذه المنقبة بمراحل، وهو من الرِّجال
الكرام يقينًا عند شيخه الإمام ابن مالك وغيره.
تنبيه (2):
قال بعضهم: أنَّ الإمام ابن
مالك أَخَذَ عن تلميذه الإمام النَّوويِّ الفقهَ والحديث.
-قال
البدر الغزِّي (المتوفَّى 984 هـ) في (البهجة الوفيَّة بحجَّة الخلاصة الألفيَّة)
(1/69):
105-
وَكَانَ صَاحِبَ الإمَامِ النَّوَوِي *** تِلْمِيذِهِ وَشَيْخِهِ كَمَا رُوِي
وقال
أيضًا في (شرحه المنثور للألفيَّة) (1/222) أثناء ترجمته للإمام ابن مالك:
(وممَّن
أخذ عنه العربيَّة: شيخ الإسلام النَّووي، قيل: وهو أخذ عنه الفقه) ا.هـ.
-وقال
الشِّهاب الغُنيمي (المتوفَّى 1044 هـ) في (إرشاد الطُّلاب إلى لفظ الألباب) (ص
290):
(فقد
سمعنا من المشايخ الثِّقات أنَّ الإمام ابن مالك كان يقرأ على الإمام النَّووي في
الحديث، وهو يقرأ عليه في العربيَّة) ا.هـ.
أقولُ: لا يثبت تتلمذ
الإمام ابن مالك على الإمام النَّووي، وذلك لعدَّة أمور، منها:
أوَّلًا: أنَّه
لم يذكر ذلك تلميذُهما العلاء ابن العطَّار في كتابه (تُحفة الطَّالبين في ترجمة
شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين)، ومن المحال أن
يقتصر فيه على ثناء الإمام ابن مالك على كتاب (المنهاج) في الفقه -كما تقدَّم-، ثمَّ
يُعرض عن هذه المنقبة الجليلة.
ثانيًا:
أنَّه لم يذكره أحدٌ ممَّن ترجم لهما من المتقدِّمين المعتنين بالتَّراجم والمناقب
في سردهم لشيوخهما وتلامذتهما في الحديث والفقه.
ثالثًا: أنَّ البدر الغزِّي ذَكَرَهُ بصيغة التَّمريض (قيل) التي لها دلالتها.
***
فهذا
ما وقفتُ عليه من نماذج أدب الإمام النَّووي مع شيخه وأدب شيخه الإمام ابن مالك معه،
وحريٌّ بنا أن نقتدي بمثل هؤلاء الأئمَّة الأعلام، ونتأدَّب بآدابهم الرَّضيَّة، وفَّقنا
الله تعالى لذلك.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
-------
[1] (إرشاد طلاب الحقائق) (1/515)،
ونحوه في (التَّقريب والتَّيسير) (ص 82).
[2] (المجموع) (1/36)، ونحوه في
(التِّبيان في آداب حملة القرآن) (ص 47).
[3] قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) (ص 59) في فصل مَن أخذ عنه اللُّغة والنَّحو والتَّصريف: (وَقَرَأَ على شيخنا العلَّامة أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله بن مالك الجَيَّاني -رحمه الله- كتابًا من تصانيفه، وعلَّق عليه شيئًا، وأشياء كثيرة غير ذلك) ا.هـ، وعلَّق السَّخاوي على ذلك في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 68) –طبعة دار المنهاج بجدَّة-، فقال: (صرَّح غير واحد بأنَّه أخذ عِلم النَّحو عن الجمال ابن مالك، وقد ذَكَرَ الشَّيخُ الجمالَ في "شرح المهذَّب"، ونَقَلَ عنه فيه وفي غيره من تصانيفه، وأَثنَى عليه ثناءً بالغًا، [ومن جُملته في الكلام على مسألة التَّكلُّم في الصَّلاة ما نصُّه: "وقال شيخُنا أبو عبد الله ابن مالك، إمام العربيَّة في زماننا بلا مدافعة"]) ا.هـ.، وما بين المعقوفتَين أَثبتُّه من نُسخةٍ خطِّيَّةٍ نفيسةٍ لم تُعتمد.
[4] (المجموع) (1/34) بتصرُّف يسير.
[5] (التِّبيان) (ص 60).
[6] هذا الكتاب هو العمدة في فقه
السَّادة الشَّافعيَّة، واعتنَى به خلقٌ لا يُحصون حفظًا، وشرحًا، واختصارًا،
وحاشيةً، ونكتًا، وتخريجًا، ونظمًا.
[7] شرَّفني شيخنا الفاضل الجليل المحقِّق المدقِّق النَّبيل محمَّد بن ناصر العجمي -حفظه الله ورعاه- بإبداء رأيي المتواضع في ذلك، فاجتهدتُ في كتابة هذه السُّطور تلبيةً لرغبة فضيلته الذي لا أردُّ له طلبًا، وأرجو الله تعالى أن وفِّقتُ فيه.