تجليةُ الجمال
فيما بين الإمام النَّووي وشيخه المَغْرِبي الكمال
بقلم: عبد الله بن محمَّد سعيد
الحُسيني
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فقد قرَّر الإمام محيي الدِّين أبو زكريَّا يحيى بن شرف
بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي (المتوفَّى676هـ) رحمه الله تعالى جملةً من أهمِّ
الآداب التي ينبغي للمتعلِّم أن يتحلَّى بها مع معلِّمه، ونراها تتجلَّى في سيرته
مع شيوخه، منهم: شيخه الإمام، المفتي، الفقيه، الزَّاهد، كمال الدِّين أبو إبراهيم
إسحاق بن أحمد بن عثمان المَغْرِبي المقْدسي الدِّمشقي الشَّافعي (المتوفَّى650هـ)
رحمه الله تعالى.
فمن ذلك:
أوَّلًا: أنَّه كان يُصرِّح بأنَّه أوَّل شيوخه الذين
أخذ عنهم الفقه الشَّافعي؛ إيذانًا منه بسابق فضله الكبير عليه، وتقديرًا لجهوده
العظيمة في تنشئته العلميَّة، فيقول [1]: «فأمَّا
أنا فأخذتُ الفقه: قراءةً، وتصحيحًا، وسماعًا،
وشرحًا، وتعليقًا عن جماعاتٍ، أوَّلُهم«، فذَكَرَه.
ثانيًا: أنَّه كان يثني عليه
غاية الثَّناء في مصنَّفاته ناعتًا إيَّاه بأكثر من وصف، ويخصُّه من بين شيوخه في الفقه بلقب «شيخِي« الذي يحمل دلالة على أنَّه الأكثر تأثيرًا
عليه والأبرز اختصاصًا به، فيقول [2]: «شيخِي، الإمام، المتَّفق على علمه، وزهده، وورعه، وكثرة
عباداته، وعِظَم فضله، وتميُّزه في ذلك على أشكاله، أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن
عثمان المغربي ثمَّ المقدسي، رضي الله عنه وأرضاه، وجمع بيني وبينه وبين سائر
أحبابنا في دار كرامته مع من اصطفاه« ا.هـ.
ويقول
[3]:
«شيخنا، الإمام، العالم، الزَّاهد، الورع، ذي الفضائل
والمعارف، أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المَغْرِبي الشَّافعي« ا.هـ.
ويقول
[4]:
«شيخُنا أبو ابراهيم إسحاق بن أحمد المقدسي، الفقيه،
الإمام، الزَّاهد« ا.هـ.
ويقول [5]:
«شيخنا،
وسيِّدنا، الشَّيخ، الإمام، الجليل، العلَّامة، العالم، العامل، الزَّاهد، العابد،
الورع، مجموع أنواع المحاسن، كمال الدِّين أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المَغْرِبي
ثمَّ المقْدِسي ثمَّ الدِّمشقي الشَّافعي رضي الله عنه« ا.هـ.
ثالثًا: أنَّه كان يلازم شيخه
ملازمة تامَّة منذ قدومه إلى مدينة دمشق سنة 649هـ وحتَّى وفاته آخر سنة 650هـ،
مقتصرًا عليه دون غيره -فيما يظهر-، ويرجع إليه، ويعرض عليه شرحه للمسائل لمراجعتها
وتصحيحها وإتقانها حتَّى كان «أكثر انتفاعه عليه« [6]، فيقول [7]: «وجعلتُ أَشرحُ وأُصحِّحُ على شيخنا، الإمام، العالم، الزَّاهد،
الورع، ذي الفضائل والمعارف، أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي الشَّافعي
رحمه الله، ولازمتُهُ« ا.هـ.
رابعًا: أنَّه كان يحرص على
تدوين اختيارات شيخه الفقهيَّة بصورة أكبر مقارنةً ببقيَّة شيوخه، خاصَّة في مصنَّفاته
المتقدِّمة، مثل: «نُكت التَّنبيه« [8].
خامسًا: أنَّه كان يعتني
بالآثار العلميَّة لشيخه عناية خاصَّة، ومن ذلك: نَسخُهُ لفتاوى الإمام ابن الصَّلاح
(المتوفَّى 643هـ) التي قام شيخُه بجمعها وترتيبها حتَّى صارت هي النُّسخة المعتمدة،
فيقول [9]: «هذه
الفتاوى صَدَرَت من الشَّيخ، الإمام، العالم، العامل، مفتي الشَّام، شيخ الإسلام،
تقي الدِّين أبي عَمرو عثمان بن عبد الرَّحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النَّصري
الشَّهْرُزُوري المعروف بابن الصَّلاح -أثابه الله الجنَّة، وغفر له، ولهم،
وللمسلمين أجمعين، آمين- اعتَنَى بجمْعها وترتيبها على حسب الإمكان من تلامذته
وأصحابه: شيخُنا، وسيِّدنا، الشَّيخ، الإمام، الجليل، العلَّامة، العالم، العامل،
الزَّاهد، العابد، الورع، مجموع أنواع المحاسن، كمال الدِّين أبو إبراهيم إسحاق بن
أحمد بن عثمان المَغْرِبي ثمَّ المقدسي ثمَّ الدِّمشقي الشَّافعي رضي الله عنه،
طلبًا للفائدة، ورجاءً للأجر والمثوبة، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها، إنَّه قريب
مجيب، وعلى ذلك قدير، وما توفيقي إلَّا بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب« ا.هـ.
سادسًا: أنَّه كان من أبرز
شيوخه الذين يحرص على زيارة قبورهم، والدعاء لهم بواسع الرحمة وعظيم المغفرة،
ويبكي تأثرًا بفقدهم واعترافًا بجزيل فضلهم عليه، خاصَّة بعد شعوره بدنوِّ أجله،
قال تلميذه علاء الدِّين علي بن إبراهيم ابن العطَّار (المتوفى 724هـ)[10]: «قال لي: (قُم حتَّى نودِّع أصحابنا وأحبابنا)، فخرجتُ
معه إلى القبور التي دُفن فيها بعض مشايخه، فزارهم، وقرأ شيئًا، ودعا، وبكى« ا.هـ.
سابعًا: أنَّه كان يدعو له دعوات
خاصَّة في مصنَّفاته، فيقول [11]: «رضي الله عنه وأرضاه، وجمع بيني وبينه وبين سائر أحبابنا
في دار كرامته مع من اصطفاه« ا.هـ، ولا
يكاد يذكره في موضعٍ إلَّا ترحَّم عليه وترضَّى، كما كان يشمله بدعوات عامَّة [12].
ثامنًا: أنَّه كان يقتفي آثاره في أنواع من العبادات
[13]، والمحافظة على الأوقات، ممَّا كان له دورٌ بارزٌ في
تكوينه علمًا وعملًا.
قال والده [14] :
«و[كان] يقتفي آثار شيخه المذكور
في العبادة؛ من الصَّلاة، وصيام الدَّهر، والزُّهد، والورع، وعدم إضاعة شيء من
أوقاته إلى أن توفِّي رحمه الله، فلمَّا توفِّي شيخه المذكور؛ ازداد اشتغاله
بالعلم والعمل« ا.هـ
وقال تلميذه ابن العطَّار [15] :
«قال لي شيخنا القاضي أبو
المفاخر محمَّد بن عبد القادر الأنصاري رحمه الله تعالى: (لو أَدركَ القُشَيريُّ
صاحب (الرِّسالة) شيخَكُم وشيخَهُ؛ لما قدَّم عليهما في ذِكرهِ لمشايخها أحدًا؛
لما جُمع فيهما من العلم، والعمل، والزُّهد، والورع، والنُّطق بالحِكَم، وغير ذلك)«.
***
ومن أهمِّ آداب الشَّيخ مع
طلَّابه ما عبَّر عنه الإمام النَّووي في غير موضعٍ، فقال [16]: «وينبغي أن يحرِّضهم
على الاشتغال في كلِّ وقتٍ، ويطالبهم في أوقات بإعادة محفوظاتهم، ويسألهم عمَّا
ذكره لهم من المهمَّات، فمَن وجده حافظه مراعيًا له: أكرمه، وأَثنى عليه، وأشاع
ذلك، ما لم يخف فساد حاله بإعجابٍ ونحوه« ا.هـ، وقال [17]
: «وينبغي للمعلِّم أن يُظهر فضل الفاضل، ويُثني عليه بذلك؛
ترغيبًا له وللباقين في الاشتغال والفكر في العلم، وليتدرَّبوا بذلك، ويعتادوه« ا.هـ، وقال [18] :
«وأن
يكون حريصًا على تفهيمهم، وأن يعطي كلَّ إنسان منهم ما يليق به، فلا يكثر على من
لا يحتمل الإكثار، ولا يقصر لمن يحتمل الزِّيادة، ويأخذهم بإعادة محفوظاتهم، ويُثني على مَن ظهرت نجابَتُهُ، ما لم يخش عليه فتنة
بإعجابٍ أو غيره« ا.هـ.
ونجد هذا الأدب الجمّ ماثلًا في
سيرة الإمام المَغْرِبي مع تلميذه الإمام النَّووي.
فمن ذلك:
أوَّلًا: أنَّه كان يأذن له
بعرض شرحه للمسائل عليه، ويصحِّحها له، ويُشرف عليه.
ثانيًا: أنَّه كان معجبًا به
غاية الإعجاب، ويحبُّه محبَّة شديدة، وتجمعه به مودَّة أكيدة؛ لما عاينه منه من
ملازمة تامَّة، و«ممَّا رأى من حرصه، واجتهاده، وعبادته، وقلَّة اختلاطه
بالجماعة، وشدَّة ذكائه لما يشرحه له« [19]
، وتفرُّد نباهته.
ثالثًا: أنَّه كان يثق به ثقة عظيمة
قلَّ نظيرها حتى أَسند إليه مهمَّة إعادة الدُّروس في حلقته لأكثر الطَّلبة،
«وما جعله معيدًا لولا أنَّه رأى أهليَّته للإعادة وإن لم
يتجاوز الوقت الذي لا يصل إليها غيره حتَّى يجتازه؛ لأنَّ الإعادة ليست يسيرة،
فإنَّ المعيد عليه قدرٌ زائدٌ على سماع الدَّرس، من تفهيم بعض الطَّلبة، ونفعهم،
وعمل ما تقتضيه لفظ الإعادة، كما أنَّ من شأنه أن يكون من صلحاء الفضلاء، وفضلاء
الصُّلحاء، صبورًا على أخلاق الطَّلبة، حريصًا على فائدتهم، وانتفاعهم به« [20]، قال الإمام النَّووي واصفًا ذلك [21]: «وجعلتُ أَشرحُ وأُصحِّحُ على شيخنا، الإمام، العالم، الزَّاهد،
الورع، ذي الفضائل والمعارف، أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي الشَّافعي
رحمه الله، ولازمتُهُ، فأُعجبَ بي؛ لما رَأى من اشتغالي، وملازمتي، وعدم اختلاطي
بالنَّاس، وأحبَّني محبَّةً شديدةً، وجعلني أُعيدُ الدُّروس في حلقته لأكثر
الجماعة« ا.هـ.
***
تنبيه (1):
الصَّحيح في لقبه هو: (المَغْرِبي)، بفتح
الميم، وسكون الغين المعجمة، وكسر الرَّاء، بعدها باء منقوطة بواحدة، وذلك لعدَّة
قرائن، منها:
1-أنَّ تلميذه الإمام النَّووي لقَّبه
بذلك عند حديثه عنه باعتباره أوَّل شيوخه الذين تلقَّى عنهم الفقه [22].
2-أنَّه كرَّر تلقيبه به في مقدِّمة نَسْخِهِ
لفتاوى الإمام ابن الصَّلاح التي جمَعَها شيخُه المذكور[23].
3-أنَّ جميع مَن نَقَلَ عن الإمام النَّووي
قد أقرَّه عليه دون أيَّ تعقب، وفي مقدِّمتهم تلميذه العلاء ابن العطَّار في كتابه
«تحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين«، وذلك في موضعَين، أوَّلهما: سماعًا من لفظِهِ،
وثانيهما: نقلًا عن كتابه «تهذيب الأسماء واللُّغات« [24].
فإن قيل: جاء في «المذيَّل على
الرَّوضتين« (2/101) للإمام أبي شامة المقدسي (المتوفى
665هـ) أنَّ لقبه هو: (المَعَرِّي)، أي: بفتح الميم والعين المهملة، وكسر الرَّاء
المشدَّدة.
فالجواب عنه: أنَّ النُّسخ الخطِّيَّة
لكتاب «المذيَّل« لم تتَّفق على هذا اللَّقب، فقد جاء في طبعة القاهرة سنة 1366هـ
(ص 187): (المُقْرِئ)، وفي النُّسخة التي اعتمَدَها الأستاذ إبراهيم الزيبق أصلًا
في تحقيق الكتاب (2/101): (المَدَنِي)، وفي نسخة خطِّيَّة أُخرى [25]:
(المِزِّي)، ممَّا يشير إلى وجود اضطرابٍ قديمٍ في هذا اللَّقب في الكتاب، ولو
سلَّمنا أنَّه فيه كذلك فإنَّه وَهْمٌ منه، وما أَثبتَهُ الإمام النَّوويُّ
مُقدَّم عليه؛ لأنَّه تلميذه الخاص، والملازم له، وأَعرف النَّاس به حتَّى جعله
مُعيد دروسه في حلقته، ومثلُهُ لا يدوِّن ذلك في تصانيفه أو يكرِّرهُ في منسوخاته أو
يتلفَّظُ به إلَّا عن درايةٍ تامَّةٍ به.
وإن قيل: إنَّ من مرجِّحات لقب (المَعَرِّي)
على (المَغْرِبي) أنَّه محفوظ كذلك بخطِّ الإمام الذَّهبي (المتوفى 748هـ) في
كتابه «تاريخ الإسلام« [26]
.
فالجواب عنه: أنَّ الإمام الذَّهبي أَثبتَ
بخطِّه أيضًا في الكتاب نفسه لقب (المَغْرِبي) في موضعَين من ترجمته للإمام النَّووي
[27]، بل ضَبطَهُ بالحركات
لمَّا تَرجم له في وفيات سنة 656هـ، فقال: «إسحاق بن أحمد بن عثمان، الإمام،
الفقيه، كمال الدِّين المَغرِبي ثمَّ المقدسي الشَّافعي، من كبار الشَّافعية، كان
موصوفًا بمعرفة المذهب والدِّيانة والفضل، أخذ عنه: الشَّيخ محيي الدِّين
النَّواوي وغيره« [28]
،
نعم ضرب على التَّرجمة لاحقًا وذكر أنها مكرَّرة وأحال على وفيات سنة 650هـ ولقَّبه
فيها بـ (المَعَرِّي) دون الإشارة إلى تتلمذ الإمام النَّووي عليه، وهذا وَهْمٌ
منه، تَبِعَ في ذلك بعضَ نُسخ «المذيَّل« أو الإمامَ أبا شامة المقدسي، والصَّواب أن
نعتمد تلقيبه له بـ (المَغْرِبي)؛ لتطابقه مع ما أَثبته الإمام النَّووي نفسه بخلاف (المَعَرِّي)،
ولإيراده له مع ضبطه دون غيره في التَّرجمة التي ذكر فيها تتلمذ الإمام النَّووي
عليه.
الصَّحيح
أنَّ وفاة الإمام الكمال المَغْرِبي كانت في 28 من شهر ذي القعدة سنة 650هـ[29] .
وهكذا
«قاله الذَّهبي في (العِبَر)، ثمَّ سَهَا -وتبعه آخرون- فذَكَرَهُ في الذين تُوُفُّوا
في سنة ستٍّ وخمسين [30]« [31] ،
وذكره أيضًا في وفيات السَّنة نفسها في «تاريخ الإسلام« المحفوظ بخطِّه، ثمَّ ضَرَبَ عليه، وذَكَرَ
أنَّه مكرَّر إشارةً منه إلى أنَّه من وفيات سنة 650هـ على الصَّحيح كما تقدَّم [32]،
ولذلك كَتَبَ تلميذه الحافظ شمس الدِّين محمَّد بن علي الحسيني (المتوفى 765هـ)
حاشيةً في هذا الموضع من «العِبَر« من النُّسخة المحفوظة منه بخطِّه قال فيها: «تقدَّم
في سنة خمسين، وهو الصَّواب« [33] .
وأمَّا ما ورد في كتابي «بلوغ الثُّريَّا
في فرائد عن الإمام النَّووي أبي زكريَّا« (ص 39 حاشية (1)، وص 186)
بشأن وفاته أنَّها سنة 668هـ، فهذا بلا ريب وهْم وسبق قلم، ويُرجى تصحيحه
تكرُّمًا.
تنبيه (3) [34] :
قال الشَّيخ قطب الدِّين اليُونِيني
(المتوفى 726هـ) [35]
:
«وكان لمَّا قدم دمشق أوَّل قدومه إليها
للاشتغال لم يكن له معرفة بالشَّيخ جمال الدِّين عبد الكافي، فاجتمع به، وعرَّفه
مقصده، فأخذه وتوجَّه به إلى حلقة الشَّيخ تاج الدِّين عبد الرَّحمن الفَزَاري [36] ، فقرأ عليه دروسًا،
وبقي يلازمه مدَّة، ولم يكن له موضع يأوي إليه، فسأل من الشَّيخ تاج الدِّين موضعًا
يسكنه، ولم يكن بيد الشَّيخ تاج الدِّين إذ ذاك من المدارس سوى الصَّارميَّة، وليس
لها بيوت؛ فدلَّه على الشَّيخ كمال الدِّين إسحاق بالرَّواحيَّة، فتوجَّه إليه،
ولازمه، واشتغل عليه، وصار منه ما صار« ا.هـ.
أقولُ: في هذه الحكاية نظرٌ ظاهرٌ، وذلك
من عدَّة وجوه:
أوَّلًا: أنَّ الشَّيخ اليُونِيْنِي
تفرَّد بها، رغم أنَّ الدَّواعي تتوافر على نقلها، وقد تبعه في ذلك آخرون دون
تمحيص.
ثانيًا: أنَّها تخالف النَّص الصَّريح للإمام
النَّووي نفسه -كما تقدَّم- حين ذَكَرَ أنَّ أوَّل شيوخه الذين أخذ عنهم الفقه
قراءةً وتصحيحًا وسماعًا وشرحًا وتعليقًا هو الإمام كمال الدِّين المغربي.
ثالثًا: أنَّ الإمام العلاء ابن العطَّار
-وهو أخصُّ تلامذة الإمام النَّووي وأكثرهم ملازمةً له- أَثبَتَ كلام شيخه في «تحفة
الطَّالبين« (ص 53-54) -وهو أوَّل كتاب أُفرد في ترجمته- دون أن يذكر غيره، بل
نَقَلَ (ص 47-48) سماعًا من لفظِهِ ما يؤكِّد أنَّ مبدأ اشتغاله في العلم إنَّما كان
على يد هذا الشَّيخ، حتَّى لازمه واقتفى آثاره، وكذلك فعل تلميذه الآخر الإمام
المِزِّي (المتوفى 742هـ) في تبييضه لكتاب «تهذيب الأسماء واللُّغات« حيث لم يستدرك عليه شيئًا.
رابعًا: أنَّه من المستنكر جدًّا بل من
المُحال أن يُعرض الإمام النَّووي عن ذِكرِ شيخٍ كان له عليه مثل هذه الوجوه من
الإحسان والإكرام والأفضال في بداية طلبه؛ لا سيَّما أنَّه كان من أكثر النَّاس
وفاءً لشيوخه، وتعدادًا لمآثرهم، وحرصًا على نسبة الفضل لأهله ودعوةً إليها.
***
فهذا
ما تيسَّر لي من نماذج أدب الإمام النَّووي مع شيخه وأدب شيخه الإمام المَغْرِبي معه،
وحريٌّ بنا أن نقتدي بمثل هؤلاء الأئمَّة الأعلام، ونتأدَّب بآدابهم الرَّضيَّة
وخصالهم الزَّكيَّة، وفَّقنا الله تعالى لذلك.
والحمد لله رب العالمين.
[1] «تهذيب الأسماء واللُّغات« (1/84-85).
[2] انظر
المرجع السابق.
[3] انظر:
«تحفة الطالبين«
(ص47).
[4] انظر
حاشية (13).
[5] انظر
خامسًا.
[6] قاله
الإسنوي في «المهمات« (1/322-323).
[7] انظر:
«تحفة الطالبين« (ص 47).
[8] ذَكَرَهُ في تسع
مواضع منه -وَصَفَهُ في جميعها بـ (شيخنا)، وترحَّم عليه وترضَّى-، كما في نُسخته
الخطِّيَّة المحفوظة في مكتبة أحمد الثالث بإسطنبول رقم (1155) [115/أ]، [151/أ]، [177/أ]، [190/أ]، [218/أ] (مرَّتين)،
[224/أ]، [224/ب]، [225/أ-ب]، ولم يذكر فيه
أحدًا سواه إلَّا في موضع واحد فقط [4/أ-ب] حَكَى فيه فائدة أخبره بها شيخه عز
الدِّين عمر بن أسعد الرَّبَعي الإِربلي (المتوفى 675هـ).
[9] وَرَدَ
هذا في نسخة محفوظة من (فتاوى الإمام ابن الصَّلاح) في مكتبة تشستربيتي رقم (3326)
[1/ب] بخطِّ نظام الدِّين محمَّد بن عبد العزيز بن محمَّد الحنفي التي فرغ منها:
يوم الخميس 11 من شهر شوال سنة 790هـ، وقد قابلها على نسخة الإمام برهان الدِّين
إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الفِركاح الفَزَارِي الدِّمشقي (المتوفَّى 729هـ) التي
قُوبلت على نسخة الإمام النَّووي بخطِّه، فقال مبيِّنًا ذلك [94/أ]:
(في
آخر النُّسخة المنتسخة هذه منها بخطِّ الشَّيخ الإمام العالم برهان الدِّين أبي
إسحاق إبراهيم بن الشَّيخ الإمام العالم تاج الدِّين عبد الرَّحمن بن إبراهيم بن
سباع بن ضياء الفَزَاري الدِّمشقي رحمه الله ما نصُّه:
«قابلتُ هذه النُّسخة على نُسخةٍ اشتُهر أنَّها بخطِّ الشَّيخ
الإمام العلَّامة شيخ الإسلام محيي الدِّين النَّووي رحمه الله، وهي نسخةٌ معتمدةٌ
مصحَّحةٌ، واجتهدتُ في مقابلة هذه النُّسخة وتصحيحها وإصلاحها بحسب الإمكان، وحضر
المقابلة نسختان أخريان، والله المسؤول أن ينفع بها«.
كتبَهُ:
نظام الدِّين محمَّد بن عبد العزيز بن محمَّد الحنفي، عفا الله عنه).
مكتبة
تشستربيتي رقم (3326) [1/ب] [94/أ]
مكتبة الفاتح
رقم (2347) [1/ب]
[10] «تحفة
الطالبين« (ص 97).
[11] انظر
ثانيًا.
[12] انظر:
«بلوغ الثُّريَّا« (ص 704).
[13] أشاد ببعض عبادات شيخه المذكور في «المجموع« (6/390) حيث ذكره مع جملة
من أعلام السَّلف والخلف الذين صاموا الدَّهر باستثناء أيَّام النَّهي الخمسة:
العيدان والتَّشريق.
[14] انظر:
«تحفة الطالبين« (ص 48-49).
[15] انظر
المرجع السابق.
[16] «المجموع« (1/33).
[17] «المجموع« (1/34) بتصرُّف يسير.
[18] «التِّبيان« (ص 60).
[19] قاله
اللَّخْمي في «ترجمة الشيخ محيي الدين يحيى الحزامي النووي الدمشقي الشافعي« (ص 33).
[20] قاله
د. أحمد الحداد في «الإمام النووي وأثره في علم الحديث وعلومه« (ص 33).
[21] انظر:
«تحفة الطالبين« (ص 47).
[22] «تهذيب الأسماء واللُّغات« (1/84-85).
[23] انظر
خامسًا.
[24]
«تحفة
الطَّالبين«
بخطِّ داود ابن العطَّار قابلها على نسخة أخيه العلاء علي، مكتبة جامعة توبنجن،
رقم (M. a. VI. 18) [3/أ-ب] [5/ب]
[25]
(المذيل على
الروضتين)، مكتبة برلين، رقم (78) [159/أ]
[26]
(تاريخ
الإسلام)، مكتبة آيا صوفيا، رقم (3013) [100/ب]
[27]
(تاريخ
الإسلام)، مكتبة آيا صوفيا، رقم (3014) [42/أ، 43/أ-ب]
[28]
(تاريخ
الإسلام)، مكتبة آيا صوفيا، رقم (3013) [146/ب]
[29] انظر:
«المذيل على الروضتين«
(2/101)، و«تاريخ الإسلام«
(14/635)، و«سير أعلام النبلاء«
(23/248-249، 284)، و«العبر في خبر من غبر« (3/265).
[30] «العبر« (3/278-279).
[31] قاله
الإسنوي في «طبقات الشافعية« (1/142).
[32] انظر
الحاشية رقم (28).
[33]
(العِبَر)،
المكتبة الفرنسيَّة الوطنيَّة رقم (1585) [183/ب]
[34] هذا
التنبيه المهم حثَّني عليه أخي فضيلة الشَّيخ المحقِّق المتقن د. محمَّد بن يوسف
الجوراني في مباحثة علميَّة جرت بيننا، وتجده محرَّرًا في كتابه: «الجامع في سيرة
الإمام النَّووي خلال ثمانية قرون«، كما أفادني بذلك.
[35] «ذيل
مرآة الزَّمان«
(3/285).
[36] يظهر أنَّ الإمام
النَّووي اجتمع بالإمام تاج الدِّين عبد الرَّحمن بن إبراهيم بن سباع ابن
الفِرْكاح الفَزَارِي (المتوفى 690هـ) غير مرَّة في مجالس السَّماع الحديثيَّة،
منها: «فضائل شهر رمضان وما فيه الأحكام والعلم وفضل صُوَّامه والتَّغليظ على من
أفطر فيه متعمِّدًا من غير عذر«
لابن شاهين وذلك في مجلس واحد في 5 من شهر رمضان سنة 662هـ بجامع دمشق، و«الجزء
الثَّاني من أمالي الإمام أبي الحُسين محمَّد بن أحمد بن إسماعيل بن عَنْبَس ابن
سمعون الواعظ« وذلك في مجلسَين، آخرهما: يوم الثُّلاثاء 20 من شهر الله المحرَّم سنة
666هـ بجامع دمشق، والجدير بالملاحظة أنَّ اسم الإمام النَّووي ذُكر في السَّامعين
بعده مباشرة، انظر: «بلوغ الثُّريَّا« (ص596-597).