لطائف الهدايا
ممَّا وَرد عن الإمام النَّووي في المدرسة
الرَّواحيَّة من الفوائد والحَكايا
بقلم: عبد الله بن محمَّد سعيد الحسيني
الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فإنَّ المدرسة الرَّواحيَّة (1)
الدِّمشقيَّة تعدُّ من المدارس العلميَّة البارزة ذات الصِّلة الوثيقة
بالإمام محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي (المتوفى
676هـ) رحمه الله تعالى؛ نشأةً وتكوينًا، وتعلُّمًا وتعليمًا، وأثرًا وتأثيرًا.
وقد ارتأيتُ أن أسوق من ذلك ما تيسَّر لي الوقوف عليه من
باب الإشارة والذِّكر لا التَّقصِّي والحصر، مقتصرًا على ما فيه التَّصريح بذلك، مُلمِّحًا
إلى أهميَّة أن نعتني بانتقاء المحاضن التَّربويَّة المناسبة لأبنائنا وفلذات
أكبادنا.
أوَّلًا: مسكنه في المدرسة:
أوَّل ما قدم مع والده إلى مدينة دمشق سنة 649هـ لطلب
العلم سكن في المدرسة الرَّواحيَّة (2)، وأقام
فيها مدَّة بلغت 27 عامًا حتَّى مات، فلم ينتقل عنها لا قبل تولِّيه دار الحديث
الأشرفيَّة سنة 665هـ ولا بعده (3).
وكان في بادئ الأمر مُقِيمًا في إيوان المدرسة (4)، ثمَّ انتقل فيها إلى بيتٍ لطيفٍ عجيب الحال (5)، وإنَّما اختار الإقامة بها على غيرها؛ لحِلِّها،
إذ هي من بناء بعض التُّجَّار (6).
ثانيًا: من منسوخاته وتصنيفاته في المدرسة:
اعتَنى بنسخ كتب أهل العلم في المدرسة، فممَّا صرَّح بنسخه
فيها: (مقدِّمة الإمام ابن الصَّلاح في علوم الحديث)، فرغ منها: يوم الثُّلاثاء 3
من شهر صفر سنة 655هـ.
كما اعتَنى بالتَّصنيف فيها، فممَّا صرَّح به: كتابه: (إرشاد
طلَّاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق)، فرغ منه: ظهر يوم السَّبت 11 من شهر
رمضان سنة 663هـ (7).
ثالثًا: من شيوخه الذين تلقَّى عنهم وسمع منهم في
المدرسة:
1-الشَّيخ إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي المقدسي
الدمشقي (المتوفى 650هـ) الذي كان مقيمًا فيها، وهو أوَّل شيوخ الإمام النَّووي في
الفقه، وقد لازمه ملازمة تامَّة، واشتغل عليه، وكان أكثر انتفاعه عليه (8).
2-الشَّيخ عبد الرَّحمن بن نوح بن محمَّد المقدسي الدِّمشقي
(المتوفى 654ه) الذي تولَّى التَّدريس فيها بعد شيخه ابن الصَّلاح، وهو ثاني شيوخ الإمام
النَّووي في الفقه (9).
3-الشَّيخ عمر بن أسعد بن أبي غالب الرَّبَعي الإربلي (المتوفى
675هـ): قرأ عليه فيها: (مقدِّمة الإمام ابن الصَّلاح في علوم الحديث)، في مجالس
آخرها في شهر شعبان سنة 655هـ، وسمع منه مقالة فيها في: 2 من شهر شعبان سنة 659هـ،
وهو ثالث شيوخ الإمام النَّووي في الفقه (10).
4-الشَّيخ شرف الدِّين أبو إسماعيل محمَّد بن إبراهيم،
سمع منه نسبه فيها، وذلك: يوم الجمعة 14 من شهر رمضان سنة 659هـ (11).
رابعًا: من تلامذته الذين أَسمعهم في المدرسة:
كان الإمام
النَّووي يُدرِّس فيها طلبته، قال الشَّيخ أبو محمَّد إسماعيل البُسطي (المتوفى
676هـ) في رثائه له (12):
رَواحيَّةٌ كانت مَحلَّ دُروسهِ *** فراحَ إلى رُوح النَّعيم
بما قرا
فممَّن سمع
عليه فيها:
1-الشَّيخ
محمَّد بن حسن بن الحسين الفارسي: قرأ عليه (الأربعين حديثًا للهاشمي)، وذلك في
مجالس آخرها: يوم الثُّلاثاء 10 من شهر ربيع الآخر سنة 669هـ (13).
2-الشَّيخ
علي بن إبراهيم ابن العطَّار الدِّمشقي (المتوفى 724هـ): قرأ عليه تصنيفه (الأربعين
في مباني الإسلام وقواعد الأحكام)، وذلك في مجلس واحد: يوم الثُّلاثاء 12 من شهر
رمضان سنة 673هـ (14).
3-سلطان
بن سنان بن أبي العلاء التَّنوخي الدِّمشقي (المتوفى 684هـ): إمام المدرسة
الرَّواحيَّة ومعيدها، قرأ عليه تصنيفه (الأذكار)، وله مرثيَّة فيه (15).
خامسًا: من حكاياته في المدرسة:
1-قُوْته ونومه فيها:
كان قُوْتُه فيها جِراية المدرسة لا غير (16)، وكان يأكل بعضها، ويتصدَّق بالباقي مدَّة لطيفة،
ثمَّ ترك ذلك، وكان أبوه وأمُّه يرسلان إليه بعض القوت، فيأكله (17).
وكان أوَّل ما سكنها بقي نحو سنتين لم يضع جنبه إلى
الأرض (18)، ولما سُئل عن نومه قال: (إذا غلبني
النَّوم استندتُ إلى الكُتب لحظةً وأَنتبه) (19)،
وهذا من شدَّة تفانيه في تحصيل العلم وبذله.
2-شيخ غريب رآه فيها:
قال الإمام النَّووي (20):
(كنتُ مريضًا بالمدرسة
الرَّواحيَّة، فبينا أنا في بعض اللَّيالي في الصُّفَّة الشَّرقيَّة منها، ووالدي
وإخوتي وجماعة من أقاربي نائمون إلى جانبي؛ إذ نشَّطني الله، وعافاني من ألمي،
فاشتاقت نفسي إلى الذِّكر، فجعلتُ أسبِّح، فبينا أنا كذلك بين الجهر والإسرار؛ إذا
شيخٌ حسنُ الصورةِ، جميلُ المنظرِ، يتوضَّأ على حافَّةِ البِرْكَة وقتَ نصفِ اللَّيلِ،
أو قريب منه، فلمَّا فرغ مِن وضوئه؛ أتاني، وقال لي: يا ولدي، لا تذكر الله
تعالى وتهوِّش على والدك وإخوتك وأهلك ومَن في هذه المدرسة، فقلتُ: يا شيخ، مَن أنت؟ قال:
أنا ناصحٌ لك، ودَعْني أكونُ مَن كنتُ، فوقع في نفسي أنَّه إبليس، فقلتُ: أعوذُ بالله من الشَّيطان
الرَّجيم، ورفعتُ صوتي بالتَّسبيح، فأعرضَ، ومشى إلى ناحية باب المدرسة، فانتبه
والدِي والجماعة على صوتي، فقمتُ إلى باب المدرسة، فوجدتُهُ مقفلًا، وفتَّشتُها،
فلم أجد فيها أحدًا غير مَن كان فيها، فقال لي والدي: يا يحيى، ما خبرك؟
فأخبرتُهُ الخبر، فجعلوا يتعجَّبون، وقعَدنا كُلُّنا نُسبِّحُ ونذكُر)ا.هـ.
3-ملازمته للكتب وكثرتها في بيته:
كان إذا زاره أحدٌ وَضَعَ بعض الكُتب على بعض حتَّى
يوسِّع له مكانًا يجلس فيه (21).
وفي الختام، فإنَّ معالم المدارس العلميَّة و(بيوتها
اللَّطيفة) التي عاش فيها الإمام النَّووي وغيره من أهل العلم ستندثر يومًا ما، غير
أنَّ آثار إعمارهم لها بالإخلاص والعلم والعمل باقية وستبقى حيَّة ماثلة أمامنا،
ونبراسًا لنا، وتذكرةً تعين على اختيار الصُّحبة الصَّادقة وتلمُّس البيئة الصَّالحة.
هذا والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
----------------
(1) مدرسة شافعيَّة تقع شمال شرق الجامع الأموي بمدينة دمشق
في العمارة الجوانيَّة، أنشأها التَّاجر زكي الدِّين أبو القاسم هبة الله بن محمَّد
بن عبد الواحد ابن رَواحة الأنصاري الحموي (المتوفى 622هـ) سنة 620هـ، وأوَّل من
تولَّاها الإمام تقي الدِّين ابن الصَّلاح (المتوفى 643هـ)، ولم يتبق من أثرها
اليوم إلَّا واجهتها، وهي الآن مدرسة شرعيَّة للبنات، انظر: (الدارس في تاريخ المدارس)
(1/199-207)، و(معجم دمشق التاريخي) (2/184).
واجهة المدرسة الرَّواحيَّة بمدينة دمشق
(2) قاله الإمام النَّووي كما (تحفة الطالبين) (ص 45)، وذُكر
أنَّ ذلك كان بسعي من التَّاج الفزاري (المتوفى 690هـ)، انظر: (ذيل مرآة الزمان) (3/285).
(3) قاله التاج السبكي في (الطبقات الوسطى) (ص 45)، انظر: (المنهل
العذب الروي) (ص 54).
(4) انظر: (بلوغ الثُّريَّا في فرائد عن الإمام النَّووي
أبي زكريَّا) (ص 313)، والإيوان: غرفة بثلاثة جدران والرابع مفتوح على صحن
المدرسة، ويستخدم كقاعة للمحاضرات وتدريس الطلبة.
(5) قاله التاج السبكي في (الطبقات الوسطى) (ص 45)، انظر: (المنهل
العذب الروي) (ص 54).
(6) قاله اليافعي في (مرآة الجنان) (4/138).
(7) انظر: (بلوغ الثُّريَّا) (ص 356).
(8) انظر: (تحفة الطالبين) (ص 47-49، 53-54)، و(تهذيب
الأسماء واللُّغات)
(1/84-85)، و(ذيل مرآة الزمان) (3/285)، و(المهمات) (1/322-323).
(9) انظر: (تحفة الطالبين) (ص 54)، و(تهذيب
الأسماء واللُّغات)
(1/85)، و(البداية والنهاية) (17/346).
(10) انظر: (بستان العارفين) (ص 215)، و(تحفة الطالبين) (ص 54)،
و(تهذيب الأسماء واللُّغات) (1/85).
(11) قال ذلك الإمام النَّووي في (بستان العارفين) (ص 214).
(12) انظر: (تحفة الطالبين) (ص 133).
(13) انظر: (بلوغ الثُّريَّا) (ص 677-684).
(14) انظر: (بلوغ الثُّريَّا) (ص 659-663).
(15) انظر: (بلوغ الثُّريَّا) (ص 633-638).
(16) قاله الإمام النَّووي كما (تحفة الطالبين) (ص 46)،
والجراية هي حصَّة الطَّالب اليوميَّة من الطعام والشَّراب.
(17) قاله اللَّخمي في (ترجمة الإمام النَّووي) (ص 31).
(18) قاله الإمام النَّووي كما (تحفة الطالبين) (ص 46).
(19) سأله عن ذلك تلميذه بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن
جماعة الكناني (المتوفى 733هـ)، ثمَّ حكاه للأدفوي كما في (البدر السافر) (2/1090).
(20) انظر: (تحفة الطالبين) (ص 51-52).
(21) حكى ذلك عنه تلميذه ابن جماعة الكناني كما في (البدر
السافر) (2/1091).