توجيهُ المراصِد لمدى صحَّة ما يُنسب للإمام النَّووي من المقاصِد [1]
بقلم: عبد الله محمَّد سعيد الحسيني
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فإنَّ كتاب (المقاصد)
ينقسم
إلى سبعة مقاصد وخاتمة، الأوَّل: في بيان عقائد الإسلام وأصول الأحكام، والثَّاني:
في أحكام الطَّهارة، والثَّالث: في أحكام الصَّلاة، والرَّابع: في الزَّكاة،
والخامس: في الصَّوم، والسَّادس: في الحجِّ، والسَّابع: في أصول طريق التَّصوُّف،
والخاتمة: في بيان الوصول إلى الله.
وقد نُسِبَ هذا الكتاب إلى شيخ الإسلام أبي زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي (المتوفى 676 هـ)، ولا تصحُّ نسبتُهُ إليه قطعًا، وذلك لعدَّة قرائن، منها [2]:
أوَّلًا: أنَّ الإمام النَّووي لم يُشر إليه إطلاقًا في أيٍّ من مصنَّفاته
وأجزائه حتَّى التي هي مظنَّة ذِكره وأقربها مناسبة به، مع أنَّ من عاداته المعروفة
المطَّردة الإحالةُ على كُتبه ولو كانت غير تامَّة أو في مسألةٍ مُعيَّنةٍ.
ثانيًا: أنَّه خالٍ تمامًا من عادات الإمام النَّووي واختياراته ومُفرداته وأساليبه
وتعبيراته التي يدركها كلُّ ممارس لمصنَّفاته، كتسمية الكتاب ومراعاة السَّجع فيه
غالبًا، وصياغة مقدّمة له تبيِّن منهجه فيه، وتحديد سنة ابتدائه أو الفراغ منه،
والإحالة على مصنَّفاته الأخرى، وتكرار الأفكار لفظًا أو معنىً مع زيادة أو
اختصار، وغيرها.
ثالثًا: أنَّ كافَّة مَن أَفرد ترجمته بالتَّصنيف مِن أهل العلم المتقدِّمين،
واعتنَى بسرد مصنَّفاته مع: تمييز التَّام منها وغير التَّام وتحديد الموضع الذي
وصل إليه فيها، وبيان صحيح النِّسبة إليه من غيره، لم يذكروا هذا الكتاب ضمنها،
كتلميذه الخاص وأعرف النَّاس به: العلاء ابن العطَّار (المتوفى 724 هـ) في (تحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي
الدِّين)، والتّقي اللّخمي (المتوفى 738 هـ) في (ترجمة الشَّيخ محيي الدِّين يحيى الحزامي النَّووي الدِّمشقي
الشَّافعي)، والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى 804 هـ) في (عمدة المحتاج إلى شرح المنهاج) (1/229-234) -وذَكَرَ
فيه انكباب النَّاس على كتابة مصنَّفاته التَّامة وغير التَّامَّة حتَّى مختصره
للتَّنبيه الذي كَتَبَ منه ورقة-، والكمال ابن إمام الكامليَّة (المتوفى 874 هـ)
في (بغية الرَّاوي في ترجمة الإمام النَّواوي)، والجلال السُّيوطي
(المتوفى 911 هـ) في (المنهاج السَّوي في
ترجمة الإمام النَّووي)، والشَّمس السَّخاوي (المتوفى 902 هـ) في (المنهل العذب الرَّوي في ترجمة قطب الأولياء النَّووي)، وغيرهم، وهؤلاء هم
العُمدة في هذا الباب لداعي الاختصاص والتَّتبُّع وقُرب العهد به، ويُعدُّ اتِّفاقهم
جميعًا على عدم ذِكره من بينها مِن أقوى قرائن نفي نسبته إليه، وقد اعتمدها الجمال
الإسنوي (المتوفى 772 هـ) في (المهمَّات) (1/99) والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى
804 هـ) في (عمدة المحتاج) (1/232) في نفي نسبة بعض الكتب إليه.
رابعًا: أنَّنا لم نقف على أحدٍ من أهل العلم المتقدِّمين نَقَلَ منه
مصرِّحًا بنسبته إليه.
خامسًا: أنَّ مَن يقارن المقصد السَّابع منه مع جزء (أصول الطَّريقة) للشَّيخ أحمد بن أحمد بن محمَّد البرنسي الفاسي المعروف بـ: زَرُّوق (المتوفى 899هـ) -والذي شَرَحَهُ الشَّيخ محمَّد بن علي الخَرُّوبي (المتوفى 963 هـ) في كتاب سمَّاه: (النُّبذة الشَّريفة في الكلام عن أصول الطَّريقة)- يجد التَّطابق بينهما حَرفًا بحَرف -إلَّا في مواضع يسيرة لا تكاد تُذكر-، ومَن يعرف الشَّيخ زَرُّوق ومطَّلعٌ على تراثه لا يتردَّد أنَّ الأسلوب أسلوبه الذي لا تُخطئُهُ العَين، ومِثلُهُ لا يَنقُلُ نصًّا طويلًا لغيره فينسبُهُ لنفْسِهِ، وعليه لم يبق أمامنا إلَّا جناية السَّرقة العلميَّة صاحَبَها بُهتان في النِّسبة، ولعلَّنا لو تتبَّعنا بقيَّة المقاصد لوجدناها كذلك.
(أصول الطَّريقة) للشَّيخ زَرُّوق، ضمن مجموع محفوظ في مكتبة المسجد النَّبوي الشَّريف،
رقم (80/202)، نُسخ سنة 991 هـ ، ويليه شرح الخرُّوبي لها
(المقاصد): المقصد السَّابع، مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود، رقم (5524)
***
فإن قيل: قد نسبه خير الدِّين الزِّرِكْلي (المتوفى 1396 هـ) إليه، فقال في (الأعلام) (8/149) -وهو يعدِّد كُتبه- ما نصُّه:
("المقاصد - ط":
رسالة في التَّوحيد) ا.هـ.
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الأوَّل: أنَّه تفرَّد بذلك، وخالف جميع المتقدِّمين والمعتنين بتراثه
الذين لم يذكروه، كما تقدَّم.
الثَّاني: أنَّه لا يَسلم من الوهم في نسبة بعض الكتب، كما نَسَبَ إلى
الإمام النَّووي في الموضع نفسه كتاب: (منار الهُدَى في الوقف والابتدا)، وهو قطعًا
للأشموني.
الثَّالث: أنَّه دخل عليه الوهم بسبب تقليده لشُرَّاح الكتاب الذين
ذَكَرَ شرحهم له في تراجمهم.
***
وإن قيل: إنَّ للكتاب نُسخًا خطيَّة في مكتبات العالم تنسبها إليه.
فالجواب عنه من وجهين:
الأوَّل: أنَّ النُّسخ الخطِّيَّة للكتاب قليلة جدًّا، وجميعها -التي
وقفتُ عليها- متأخِّرة وأقدمها تعود إلى أواخر القرن الثَّاني عشر الهجري (1182
هـ)، أي: بعد وفاته بخمسة قرون وأكثر! لا يُطمأنُّ إليها في ميزان التَّحقيق
العلمي، وليس فيها أيّ قرينة معتبرة تُثبت صحَّة نسبته إليه، بخلاف سائر مصنَّفاته
التي هي مقابلة على نسخته أو مسموعة على الرُّواة عنه من تلامذته، أو مقابلة على
أصولهم المعتمدة، أو منصوص عليها عند جمهور أهل العلم من المعتنين به، أو يظهر
فيها بجلاء لكل معتنٍ بتراثه نَفَسُهُ وأسلوبُهُ.
الثَّاني: أنَّ هناك بعض الكتب وُجدت لها نسخ خطِّيَّة قريبة العهد بعصر
الإمام النَّووي، نَسَخَها بعض تلامذته ومَن في طبقتهم، ونَسَبَها إليه بعض أهل
العلم ممَّن عاصروه أو أتوا بعده بيسير، ومع ذلك جَزَمَ المحقِّقون من أهل العلم
بعدم صحَّة نسبتها إليه، مثل: (مشكلات الوسيط) الذي نسبه إليه: النَّجم
أحمد بن محمَّد ابن الرِّفعة (645 هـ-710 هـ) في (المطلب
العالي في شرح وسيط الغزالي)، والتَّقي محمَّد بن الحسن اللّخمي (680 هـ-738 هـ) في (ترجمة الشَّيخ محيي الدِّين يحيى الحزامي النَّووي الدِّمشقي
الشَّافعي) (ص 60) ووصفه أنَّه كامل في كراريس، والكمال جعفر بن ثعلب الأدفوي (685
هـ-748 هـ) في (البدر السَّافر) ووصفه أنَّه لم يكمل،
بينما جَزَمَ الجمال الإسنوي (المتوفى 772 هـ) والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى
804 هـ) أنَّه ليس من تصنيفه [3]، و(مختصر مسلم) الذي له عدَّة نسخ، منها: نسخة بخطِّ العلاء علي
بن أيُّوب بن منصور المقدسي (666 هـ-748 هـ) -الذي نصَّ السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 87، 127) و(الضَّوء
اللَّامع) (2/141) و(التُّحفة اللَّطيفة) (2/410) أنَّه تلميذٌ
للإمام النَّووي، وذَكَرَ أنَّه نَسَخَ بخطِّه كتابه (المنهاج) وحرَّره ضبطًا وإتقانًا-، وفرغ منها سنة 747 هـ، وأخرى بخطِّ محمَّد
بن عمر بن إبراهيم بن محمَّد، وفرغ منها سنة 717 هـ، ونسبه إليه: التَّقي اللّخمي
في (ترجمة الشَّيخ محيي الدِّين يحيى الحزامي النَّووي الدِّمشقي
الشَّافعي) (ص 55) ووصفه أنَّه مجلَّد كبير ضخم، بينما جَزَمَ السِّراج ابن
الملقِّن (المتوفى 804 هـ) أنَّه ليس من تصنيفه[4]، فإذا انتَقَدَ
المحقِّقون نسبة هذين الكتابَين إليه مع ما ترى من حالهما، فكيف بالنُّسخ
الخطِّيَّة القليلة المتأخِّرة لكتاب لم ينسبه إليه أحدٌ من أهل العلم المتقدِّمين
المعتنين به؟!
***
وإن قيل: إنَّه اعتنَى به جماعة شرحًا وتعليقًا، منهم:
1-الشَّيخ علي بن محمَّد سعيد السُّويدي (المتوفى 1237 هـ) في كتابه:
(شرح مقاصد الإمام النَّووي)، كما في (الأعلام) (5/17).
2-الشَّيخ محمَّد أمين بن علي بن محمَّد سعيد السُّويدي (المتوفى
1246 هـ)، في كتابه: (قلائد الفرائد في شرح المقاصد)، كما في (هديَّة العارفين)
(2/364) لإسماعيل البغدادي (المتوفى 1339 هـ)، و(الأعلام) (6/42).
3-الشَّيخ إبراهيم بن صبغة الله بن أسعد الحيدري (المتوفى 1299 هـ)، في
كتابه: (إمداد القاصد في شرح المقاصد)، كما في (هديَّة العارفين) (1/43)، و(الأعلام)
(1/44).
4-الشَّيخ محمَّد بن أحمد البيروتي (كان حيًّا قبل 1327 هـ)، في
كتابه: (الزَّوائد على رسالة المقاصد)، كما في (معجم المطبوعات العربيَّة والمعرَّبة)
(2/١٦٢٧).
5-الشَّيخ مصطفى بن محيي الدِّين بن مصطفى نجا (المتوفى 1350 هـ)، في كتابه: (فرائد الفوائد على المقاصد)، كما في (الأعلام الشَّرقيَّة) (1/418).
6-الشَّيخ محمَّد بن محمود الحجَّار (المتوفى 1428 هـ)، في كتابه: (شرح
المقاصد النَّووية).
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الأوَّل: أنَّه مع كثرة عناية أهل العلم بمصنَّفات الإمام النَّووي
إلَّا أنَّنا لم نقف على مَن اعتنَى به مِن المتقدِّمين، وجميع هذه الشُّروح
متأخِّرة جدًّا من القرن الثَّالث عشر الهجري فما بعده، وإنَّما شرحوه بسبب ظنِّهم
أنَّه ثابتٌ عنه، ولم يتبيَّن لهم هذه الإشكالات الواضحات الواردة في نسبته إليه.
الثَّاني: أنَّ هناك كتبًا نُسبت إلى الإمام النَّووي وشُرحت، ومع ذلك نصَّ
المحقِّقون من أهل العلم على عدم صحَّة نسبتها إليه، مثل كتاب: (النِّهاية في الاختصار
للغاية) المنسوب إليه الذي شَرَحَهُ جماعة من أهل العلم، كالكمال النَّشائي
(المتوفى 757 هـ)، والتَّقي الحِصني (المتوفى 829 هـ)، والشَّمس العجلوني (المتوفى
831هـ)[5]، بينما جزم التَّقي السُّبكي (المتوفى 756 هـ)، والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى 804 هـ) وغيرهما أنَّه منسوب إليه وليس
من تصنيفه [6].
الثَّالث: أنَّ شَرْح بعضهم للكتاب لا يُثبت النِّسبة إلى الإمام
النَّووي، فقد شَرَحَ الجمال الإسنوي (المتوفى 772 هـ) كتاب (النِّهاية في
الاختصار للغاية) المنسوب إلى الإمام النَّووي، مع جزمه أنَّه ليس من تصنيفه [7].
***
هذا والله تعالى أعلم.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا
كثيرًا.
--------------------
[1] عرضتُ البحث على
فضيلة الشَّيخ المحقِّق د. محمَّد بن يوسف الجوراني، فأقرَّني وأفاد، كعادته
النَّبيلة، جزاه الله خير الجزاء.
[2] سألني
عن ذلك أخي الفاضل أحمد حلبي، وذلك مِن حسن ظنِّه بالعبد الفقير، فكان هذا البحث
المتواضع، وقد ذكرتُ هذه القرائن أيضًا في نفي نسبة (شرح الأربعين) إليه،
ومثلُهُ كذلك الجزء المنسوب إليه المسمَّى بـ: (ذِكر اعتقاد السَّلف في الحروف
والأصوات)، فإنَّه لا تصحُّ نسبته إليه.
[3] قال الإسنوي في (المهمَّات) (1/98-99) -بعد قوله: (ويُنسب إليه تصنيفان لَيسا له)-: (والثَّاني: "أغاليط على الوسيط" مشتملة على خمسين موضعًا، بعضها فقهيَّة وبعضها حديثيَّة، وممَّن نسب هذا إليه: ابن الرِّفعة في "شرح الوسيط"، فاحذره، فإنَّه لبعض الحمويِّين) ا.هـ، قلتُ: وهو: شهاب الدِّين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم الشَّهير بابن أبي الدَّم الهمْداني الحَمَوي ولادةً ووفاةً (583 هـ-642 هـ)، ذكروا من مصنَّفاته: "شرح مشكل الوسيط"، وهو نحو الوسيط مرَّتين، وقد نَقَلَ هذه الأغاليط من شرحه الكبير المذكور، وله نسخة خطِّيَّة محفوظة في دار الكتب المصريَّة رقم (282) فقه شافعي، ونُسخت في أواسط القرن الثَّامن الهجري، صرَّح ناسخها بنسبته إليه، وقال ابن الملقِّن في (عمدة المحتاج) (1/232): (و"مشكلات الوسيط": والظَّاهر أنَّها ليست له، وإن عزاها إليه صاحب "المطلب"، وغيره) ا.هـ، وعلَّق على كلامه السَّخاويُّ في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 82)، فقال: (يعني: كالكمال الأدفوي، فإنَّه سمَّاه في "البدر السَّافر" من تصانيفه مع: "إشكالات على المهذَّب"، وقال: إنَّهما لم يكملا) ا.هـ.
[4] قال في (عمدة المحتاج)
(1/232) -بعد جزمه في "النِّهاية" أنَّه ليس له-: (وكذا "مختصر
مسلم"، وكأنَّ مصنِّفه أخذ تراجمه من "شرح صحيح مسلم" له، وركَّب
عليها متونه، وعزاه إليه) ا.هـ.
[5] قال السَّخاوي في (المنهل
العذب الرَّوي) (1/232): (شَرَحَ "الغاية" المنسوبة له: الجمال الإسنوي،
والكمال النَّشائي، والتَّقي الحِصني، والشَّمس محمَّد بن أحمد بن موسى العجلوني)
ا.هـ.
[6] قال التَّقي السُّبكي في (الفتاوى) (1/156): ("نهاية الاختصار" المنسوب إلى النَّووي) ا.هـ، وقال ابن الملقِّن في (عمدة المحتاج) (1/232): (وممَّا يُعزى إليه: "النِّهاية" في الفقه، وعندي أنَّها ليست له، وإن كانت له، فلعلَّها ممَّا صنَّفه في أوَّل أمره) ا.هـ.
[7] قال في (المهمَّات) (1/98-99): (ويُنسب إليه تصنيفان لَيسا له: أحدهما: مختصرٌ لطيفٌ يُسمَّى: "النِّهاية في الاختصار للغاية") ا.هـ.