الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
ومن والاه ، وبعد :
فمن العبارات المتداولة بين النَّاس قول بعضهم لبعض في ليلة الجُمعة ويومها: (جُمعة مباركة)، ونحوها، وينبغي التَّفصيل فيها على النَّحو التالي :
1-إما أن يقولها المسلم عادةً :
فهي
عادةٌ حسنةٌ محمودةٌ ، كقولنا : (صبحكم أو مساكم الله بالخير) ،
وهي تعزِّز روح المحبة والمودة والألفة والسلام في ربوع المجتمع الإسلامي ،
ولا يُختلف في أن هذا التعزيز مطلبٌ شرعيٌّ ، والأصل في العادات الإباحة ، كما هو
مقرَّر في موضعه .
2-وإما أن يقولها المسلم عبادةً :
أ-فإن
قيلت على سبيل الإخبار والتَّذكير ببركة هذا اليوم ، فهذا المقصد ينبغي ألا يُختلف
في جوازه ، قال الله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : 55] ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرًا
ما يجدِّد الحديث عن مواسم الخيرات ، إخبارًا بعظيم فضلها ، وتذكيرًا لإدراك
بركتها ، وترغيبًا في التعرّض لنفحاتها .
ب-وإن
قيلت على سبيل الدُّعاء والتَّهنئة ، فهنا محل النِّزاع .
والذي
يظهر أنَّه لا حرج فيها إن شاء الله ، لعدة اعتبارات :
أولًا
: أن يوم الجمعة له فضائل ومزايا وخصوصية
على سائر أيام الأسبوع ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (خَيْرُ يَوْمٍ
طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ) [أخرجه مسلم في صحيحه (854)] .
قال
الإمام النَّووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم (6/142) : (في هذا الحديث فضيلة
يوم الجمعة ، ومزيته على سائر الأيام) ا.هـ
ثانيًا
: أن في يوم الجمعة ساعة مباركة
يُستجاب فيها الدُّعاء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ، فَقَالَ : (فِيهِ سَاعَةٌ ، لاَ
يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، يَسْأَلُ اللَّهَ
تَعَالَى شَيْئًا ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ) [متَّفق عليه : البخاري (935) ،
ومسلم (852)] .
قال
الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في فتح الباري (2/422) : (فيه فضل
الدعاء ، واستحباب الإكثار منه) ا.هـ
ثالثًا
: أن يوم الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين
، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ ، جَعَلَهُ
اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ ،
وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ) [رواه ابن
ماجه في سننه (1098) ، وحسَّنه الألباني] ، وقد ثبتت الأدعية والتهاني في العيدين
عن السَّلف الصالح .
ولهذه
المسألة نظائر ، مثل قول بعضهم بعد الصلاة (تقبَّل الله منا ومنك) ، فقد أفتى فيها فضيلة الشَّيخ ابن باز رحمه الله تعالى
في فتاوى نور على الدرب (9/220-221) بما نصُّه :
(لا
حرج في ذلك إذا قال لأخيه : (تقبَّل الله منا ومنك) ، بعد الصلاة ، أو عند الخروج
من المسجد ، أو عند اللقاء من صلاة الجنازة ، أو من اتباع الجنائز ، أو من صلاة
الجمعة ، كل هذا خيرٌ إن شاء الله ، لا حرج في ذلك ، فالمسلم يدعو لأخيه بالقبول
والمغفرة) ا.هـ
وقال رحمه الله تعالى أيضًا في مجموع الفتاوى (13/25) :
(لا
حرج أن يقول المسلم لأخيه في يوم العيد أو غيره : (تقبَّل الله منا ومنك أعمالنا
الصالحة) ، ولا أعلم في هذا شيئًا منصوصًا ، وإنما يدعو المؤمن لأخيه بالدعوات
الطيبة ؛ لأدلة كثيرة وردت في ذلك) ا.هـ
(أكثرُ أهل الجنة البُله) .. حديث مُنكر سندًا ومتنًا !
بقلم : عبد الله الحسيني
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد
المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ..
فقد وصف الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق مَن وقف في ميادين مصر وهو يعتقد أنه يدافع عن الإسلام ، بأن الله سيُكرمه ، لأنه عبيط ! واستدلّ بحديث : (أكثرُ أهل الجنَّة البُلْه) ، وربما خفي عليه بأن الحديث مُنكر سندًا ومتنًا عند المحقّقين من أهل العلم
، وهذا ما سيتبين لك من خلال هذه المقالة .
اعلم بأن هذا الحديث مروي مرفوعًا عن أنس وجابر رضي الله عنهما .
أولًا : حديث أنس بن مالك رضي الله عنه :
رُوي من أربع طرق عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه
مرفوعًا : (أكثرُ أهل الجنة البُله) .
الطريق الأول : عن محمد بن عزيز ، عن سلامة بن روح ، عن
عقيل بن خالد ، عن الزهري به .
رواه البزار في مسنده (6339) ، وابن عدي في الكامل (4/329)
، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان (4/497-498) ، وكذلك ابن الجوزي في العلل
المتناهية (2/452) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/110) ، وغيرهم .
قلتُ : في إسناده : سلامة بن روح ، قال أبو حاتم الرازي
: (ليس بالقوي ، محله عندي محل الغفلة) ، وقال أبو زرعة : (ضعيف ، منكر الحديث ،
يكتب حديثه على الاعتبار) ، وقال أبو داود : (كان أحمد بن صالح كتب عنه ، ثم تركه)
، وقال ابن قانع : (ضعيف) ، وذكر له ابن عدي عدة مناكير عن عقيل ، وقال ابن حبان :
(مستقيم الحديث) ، وقال مسلمة بن القاسم : (لا بأس به) ، كما في تهذيب التهذيب
(4/289-290) وغيره .
وبه أعلَّه الأئمة الحفّاظ :
1/ قال ابن
أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/302) : (سألتُ أبا زرعة عن سلامة بن روح ، قال :
أيلي ، ضعيف ، منكر الحديث ، قلتُ : يكتب حديثه ؟ قال : نعم ، يُكتب على الاعتبار ،
روى حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أكثر أهل الجنة البله ..) ا.هـ
2/ وقال البزار في مسنده (13/32) : (هذا الحديث قد رُوي
بعض كلامه – يعني : (رب ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبرة) - ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم من وجوه ، وبعضه لا نعلمه يُروى إلا من هذا الوجه ، وسلامة كان ابن أخي
عقيل بن خالد ، ولم يُتابع على حديث (أكثر أهل الجنة البله) ، على أنه لو صح كان
له معنى) ا.هـ
3/ وقال ابن عدي في الكامل (4/329) : (هذا الحديث بهذا
الإسناد منكر ، لم يروه عن عقيل غير سلامة هذا) ا.هـ
4/ وقال ابن القيسراني في أطراف الغرائب والأفراد
(2/192) : (تفرّد به سلامة بن روح عن عمه عقيل عنه) ا.هـ ، وقال في ذخيرة الحفاظ
(1/445) : (هذا بهذا الإسناد منكر، لم يروه عن عقيل غير سلامة) ا.هـ
5/ وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/452) : (هذان
حديثان لا يصحان .. أما حديث أنس ، فقال ابن عدي : هو حديث منكر بهذا الإسناد ، ولم
يروه عن عقيل غير سلامة ، قال الدارقطني : تفرَّد به سلامة عن عقيل) ا.هـ
6/ وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (13/202) : (له حديث مُنكر
، تفرَّد به) ا.هـ فساق له هذا الحديث ، ثم قال : (ولسلامة أحاديث مناكير) فساق
بعضها ، وانظر : تلخيص العلل المتناهية (ص 363) ، وميزان الاعتدال (2/183) .
7/ وقال العراقي في تخريج الإحياء (3/18) : (أخرجه
البزار من حديث أنس وضعَّفه ، وصحَّحه القرطبي في التذكرة ، وليس كذلك ، فقد قال
ابن عدي أنه مُنكر) ا.هـ
8/ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/402) : (رواه
البزار ، وفيه سلامة بن روح، وثقه ابن حبان، وغيره، وضعفه غير واحد) ا.هـ
الطريق الثاني : عن يحيى بن الربيع العبدي ، عن عبد
السلام بن محمد الأموي ، عن سعيد بن كثير بن عفير ، عن يحيى بن أيوب ، عن عقيل بن
خالد ، عن الزهري به .
رواه القضاعي في مسند الشهاب (2/110) .
قلتُ : في إسناده : عبد السلام بن محمد الأموي القرشي : قال
الدارقطني : (ضعيف جدًا) ، وقال أيضًا في غرائب مالك : (الحمل فيه على عبد السلام
، وهو منكر الحديث) ، وقال الخطيب : (صاحب مناكير) ، انظر : ذيل الميزان (ص 148) ،
ولسان الميزان (5/179) .
الطريق الثالث : عن محمد بن يزيد بن حكيم ، عن محمد بن العلاء
الأيلي ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري به .
رواه أبو سعد الكنجروذي كما في تهذيب الكمال (26/117) .
قلتُ : في إسناده : محمد بن يزيد بن حكيم : وهو محمد بن
يزيد المستملي : قال ابن عدي في الكامل (7/539) : (يسرق الحديث ، ويزيد فيها ، ويضع)
، وقال الخطيب في تاريخ بغداد (2/287) : (متروك الحديث) ، وقال ابن حبان في الثقات
(9/115) : (ربما أخطأ) ، وانظر : لسان الميزان (7/586) .
ولذلك قال أبو موسى المديني في اللطائف (ص 354) بعد أن
ذكر هذا الطريق ضمن طرق الحديث : (ورُوي من حديث يونس عن الزهري .. وكلها أفراد
غرائب) ا.هـ
وقال العسكري كما في المقاصد الحسنة (ص 137) للسخاوي : (غريب
من حديث الزهري ، وهو من حديث يونس عنه أغرب ، لا أعلمه إلا من هذا الوجه) ا.هـ
وقال المزي : (وهو غريب أيضًا من حديث يونس بن يزيد ، لا
نعرفه عنه إلا من هذا الوجه) ا.هـ
الطريق الرابع : عن محمد بن عيسى بن رفاعة الأندلسي ، عن
عبد الصمد بن عبد الرحمن الطائفي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري به .
رواه أبو موسى المديني في اللطائف (ص 353) .
قلتُ : في
إسناده : محمد بن عيسى بن رفاعة الأندلسي ، قال الذهبي في الميزان (3/679) : (متهم
بالكذب) ، وقال ابن حجر في اللسان (7/329-430) : (وممن وصفه بالكذب أبو جعفر بن
صابر المالقي في تاريخه .. قال ابن الفرضي : كان من أهل رية ، رحل وسمع من علي بن
عبد العزيز ، ومُحمد بن رزيق بن جامع ، وبكر بن سهل الدمياطي ، وَغيرهم ، وكان
يرحل إليه للسماع منه ، قال : فقال لي محمد بن أحمد بن يحيى: هو كذاب ، وكذا كذَّبه
أبو جعفر أحمد بن عون الله , قال : ثم قدم قرطبة ، فأخرج كتابًا من حديث سفيان بن
عيينة ، عَن الزهري ، عن أنس كله ، قال : وابن عيينة إنما عنده ، عَن الزهري ، عَن
أنس ستة ، أو سبعة ، فلما اجتمع به أبو جعفر ، قال له : هذا الكتاب من العوالي
التي كنت تسأل عنها ، قال : فنظر فيه ، فافتضح الشيخ ، وأسقط أبو جعفر ، ومُحمد بن
أحمد بن يحيى روايتهما عنه ، وكذا كذَّبه غيرهما) ا.هـ
ولذلك قال
المديني بعد روايته للحديث :
(هذا حديث غريب جدًا من حديث ابن عيينة عن الزهري ،
وإنما يُعرف هذا من رواية محمد بن عزيز) ا.هـ ، ثم قال (ص 254) : (رواه أبو الحريش
أحمد بن عيسى الكلابي عن ابن عزيز وإسحاق بن إسماعيل الأيلي معاً عن سلامة، وروي
من حديث يونس عن الزهري، وقد رُوي أيضاً من حديث جابر رضي الله عنه ، وكلها أفراد
غرائب) ا.هـ
ثانيًا : حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما
:
رُوي من طريق
أحمد بن عيسى الخشّاب ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن مصعب بن ماهان ، عن الثوري ، عن
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنها عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال : (دخلتُ الجنة ، فإذا أكثر أهلها البُله) .
رواه ابن عدي في الكامل (1/314) ، والبيهقي في شعب
الإيمان (2/497) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/452) .
قلتُ : في إسناده : أحمد بن عيسى الخشّاب ، قال ابن عدي
: (ذُكر عنه غير حديث لا يحدث به غيره عن عمرو بن أبي سلمة وغيره) ، وقال ابن حبان
في المجروحين (1/146) : (يروي عن المجاهيل الأشياء المناكير ، وعن المشاهير
الأشياء المقلوبة ، لا يجوز عندي الاحتجاج بما انفرد به من الأخبار) .
وفي المغني في الضعفاء (ص 51) للذهبي : (قال الدارقطني :
(ليس بالقوي) ، وأسرف ابن طاهر فقال : (كذَّاب ، يضع الحديث) ، قلتُ – القائل :
الذهبي - : نعم ، رأيتُ للخشاب في موضوعات ابن الجوزي : الأمناء ثلاثة أنا وجبريل
ومعاوية ، فصدق ابن طاهر) ا.هـ
وفي لسان الميزان (1/568) لابن حجر : (قال مسلمة : (كذَّاب
، حدَّث بأحاديث موضوعة) ، وقال ابن يونس : (كان مضطرب الحديث جدًّا) ) ا.هـ
ولذلك قال ابن عدي في الكامل (1/315) عن هذا الحديث : (هذا
حديث باطل بهذا الإسناد) ا.هـ ، وأقرَّه الذهبي في ميزان الاعتدال (1/126) ،
وتلخيص العلل المتناهية (ص 363) ، وابن حجر في لسان الميزان (1/568) .
وقال ابن شاهين كما في تاريخ دمشق (43/533) : (تفرد بهذا
الحديث مصعب بن ماهان عن الثوري ، ولا أعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الطريق ، وهو
حديث غريب إن صح) ا.هـ
وقال البيهقي في شعب الإيمان (2/497) : (هذا الحديث بهذا
الإسناد منكر) ا.هـ
وقال ابن القيسراني في ذخيرة الحفاظ (3/1330) : (هذا
باطل بهذا الإسناد ، والحمل فيه على أحمد هذا) ا.هـ
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/452) بعد أن ساق
حديث جابر وأنس رضي الله عنهما : (هذان حديثان لا يصحان ، أما الأول ، فقال ابن عدي : حدّث أحمد بن عيسى
بأحاديث لا يحدث بها غيره ، وقال ابن حبان : يروي عن المجاهيل الأشياء المناكير)
ا.هـ
وقال المديني في اللطائف (ص 254) : (وقد رُوي أيضًا من
حديث جابر رضي الله عنه ، وكلها أفراد غرائب) ا.هـ
وانظر : الجامع الصغير (4187) للسيوطي ، والمداوي
(2/111) و (4/13) لأحمد الغماري ، والسلسلة الضعيفة (13/352) ، وتخريج شرح
الطحاوية (ص 508) للألباني .
وها قد مر بك تحقيق الأئمة والحفاظ بأن هذا الحديث المُنكر
إنما تفرّد به سلامة بن روح ، ولا يُعرف عندهم إلا من طريقه ، فلم يروه عن عقيل
غيره ، ولم يتُابع عليه ، فعدولهم عن الطرق والشواهد السالفة - مع ما عرفوا به من
سعة العلم والدقة – يرجّح بأن جلّ هذه الأسانيد مركبة ومسروقة وموضوعة .
وها قد رأيت طرق الحديث وشواهده ، وهي ما بين مُنكرة أو باطلة أو موضوعة ، فأنّى يتقوَّى بها ؟! ولله درّ الإمام أحمد رحمه الله تعالى حين قال : المُنكر أبدًا مُنكر ، والله
أعلم .
تنبيه :
ادّعى الأستاذ بشَّار الحادي في نقاش بإحدى المجموعات العلميَّة بأن الحديث ضعيف السند ، صحيح المتن ، وأن أصله
في صحيح الإمام مسلم (2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا : (تَحَاجَّتِ
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَقَالَتِ النَّارُ : أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ ،
وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ : فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا
ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَغِرَّتُهُمْ ؟ ..) .
واعتمد في ذلك
على قول الإمام النووي في شرح مسلم (17/181) : (غِرّتهم : بغين معجمة مكسورة ، وراء
مشددة ، وتاء مثناة فوق ، وهكذا هو الأشهر في نسخ بلادنا ، أي : البله الغافلون
الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا ، وهو نحو الحديث الآخر : أكثر أهل الجنة
البله) ا.هـ
قلتُ : الادعاء بأن الحديث صحيح المتن ، وأن أصله في
صحيح الإمام مسلم ، فيه نظر بيّن ، وذلك لعدة اعتبارات :
أولًا : هذا اللفظ - مع صحته - إنما ساقه الإمام مسلم في
المتابعات لا في الأصول .
ثانيًا : استدل الإمام مسلم على أن الجنة مسكن الضعفاء
والمساكين ، وأن النار مسكن الجبار والمتكبرين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه
مرفوعًا : (احْتَجَّتِ النَّارُ، وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي
الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي
الضُّعَفَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ .. ) ثم ساق أول متابعة لحديث الباب بلفظ : (تحَاجَّتِ
النَّارُ، وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ،
وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا
ضُعَفَاءُ النَّاسِ، وَسَقَطُهُمْ، وَعَجَزُهُمْ) ، وأما اللفظ المستشهد به : (وَغِرَّتُهُمْ)
، فإنما ساقه في متابعة ثالثة للأصل .
ثالثًا : أن اللفظ المستشهد به مختلف فيه بين رواة الحديث
على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : (غَرَثهم) ، بمعنى الجوع والفاقة والحاجة
، قال القاضي عياض في إكمال المعلم (8/377) : (وعند أكثر شيوخنا : وغرثهم ، بفتح
الغين المعجمة ، وفتح الراء ، وثاء بعدها مثلثة ، ومعناه قريب من قوله : ضعفاؤهم
وسقطهم ، أي : مجاويعهم ، والغرث : الجوع) ، وقال النووي في شرح مسلم (17/181) : (قال
القاضي : هذه رواية الأكثرين من شيوخنا) ا.هـ
الوجه الثاني : (عجزهم) ، جمع عاجز ، بمعنى العيي الضعيف
، وقد أخرجها مسلم في صحيحه (2846) في أول متابعة لحديث الباب .
الوجه الثالث : (غِرَّتهم) ، بمعنى البله الغافلون الذين
ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا ، قال النووي في شرح مسلم (17/181) : (وهكذا هو
الأشهر في نسخ بلادنا) .
فكيف يُستشهد بلفظ مختلف فيه بين الرواة على تقوية حديث تكاد
تتفق عبارات أهل الشأن على نكارته ؟!
رابعًا : حتى مع القول بأن رواية (وغرتهم) هي
الأشهر ، فلفظ الحديث صريح بأن عامة من
يسكن الجنة من ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم ، وليس فيه أدنى إشارة بأن فئة معينة من
هؤلاء هي أكثر أهل الجنة كما أفاده الحديث المُنكر .
خامسًا : صحّت الأحاديث بأن أكثر أهل الجنة من الفقراء ،
وأن عامة من يسكنها من المساكين ، وهذا ما جعل أئمة الحديث لا يرتابون في نكارة
حديث (أكثرُ أهل الجنة البُله) سندًا ومتنًا ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
(اطلعتُ في الجنة ، فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء) رواه البخاري (6546) من حديث عمران
رضي الله عنه ، ومسلم (2737) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيحيهما ، وقال
عليه الصلاة والسلام : (قمتُ على باب الجنة ، فكان عامة من دخلها المساكين) رواه
البخاري (6547) ومسلم (2736) في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وأختم المقالة بكلام نفيس للإمام ابن أبي العز رحمه الله
تعالى ، حيث قال في شرح العقيدة الطحاوية (ص 508-509) ما نصّه :
(أما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : (اطلعتُ على أهل الجنة ، فرأيتُ أكثر أهلها البله) , فهذا لا يصحّ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا ينبغي نسبته إليه ، فإن الجنة إنما خُلقت
لأولي الألباب ، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر , وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه ، فلم يذكر في
أوصافهم البله ، الذي هو ضعف العقل ، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (اطلعتُ
في الجنة ، فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء) ، ولم يقل البله !) ا.هـ
هذا والله أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا
كثيرًا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
لابد أن نتذكّر مع بداية
كل عام دراسي جديد قول معلّمنا الأول صلى الله عليه وآله وسلم : (كلكم راعٍ ،
وكلكم مسؤول عن رعيته) ، فمع تجدّد العام الدراسي ، تتجدد مسؤولية مَن هم في ميادين
التربية والتعليم ، فهناك الوزير ، وهناك المدير ، وهناك المعلم ، وهناك ولي الأمر
، وهناك الطالب ، وإذا أدرك كل واحد من هؤلاء حجم المسؤولية العظيمة الملقاة على
عاتقه ، فإنه سيسعى جاهدًا لتحقيق الغايات التعليمية النبيلة ، فإليهم أهدي هذه
الهمسات .
أيها المعلم المربّي :
أولاً : أخلص نيتك لله
وحده في سائر عملك وحياتك ، فمهما بلغت رقابة البشر عليك ، ضع رقابة الله دائمًا
نصب عينيك .
ثانيًا : كن قدوة صالحة
في خُلُقك وسلوكك وسائر أمورك ، بحيث يتفق مقالك مع حالك .
ثالثًا : اغرس حبّ العلم
وأهله في قلوب طلابك ، بترغيبهم في العلم بشتى الطرق والأساليب المتجددة ،
وتعويدهم على القراءة والاطلاع والبحث لا سيما سير العلماء والعظماء والمصلحين .
رابعًا : طيّب منطقك ،
فلا يسمع منك طلابك إلا خيرًا ، فإن الكلمات الطيبة تصنع الأعاجيب في النفوس ، وتؤثر
فيها بالغ الأثر .
خامساً : حسّن معاملتك مع
طلابك ، وذلك باحترامهم وتقديرهم ، والاهتمام بشؤونهم ، والعدل بينهم ، والتواضع
لهم ، والصبر عليهم ، وتعزيزهم عندما يستحقون ذلك ، والحكمة في معالجة عثراتهم ،
والرعاية الجادة بالموهوبين والمتميزين ، والنهوض بالمتعثرين ، مع ضرورة تقييم أدائك
بشكل مستمر بالاشتراك مع إدارتك وزملائك وطلابك .
سادسًا : جمّل مظهرك بما
لا يخرج عن حد الاعتدال ، فذلك أدعى للقبول والتقدير والاحترام .
أيها الطالب العزيز :
أولاً : أخلص نيتك لله
وحده في طلبك للعلم ، واجعل غايتك خدمة دينك ووطنك وأمتك .
ثانيًا : استعن بالله
دومًا ، فإنك إن تعرَّفت إليهِ في الرخاءِ واليُسر ، يعرِفكَ سبحانهُ عندَ الشِّدة
والضيق ، واتق الله حيثما كنت .
أولاً : اجعل علاقتك
بفريقك الإداري والتعليمي والطلابي قائمة على الأخوّة والود والاحترام والشفافية والمرونة
والثقة المتبادلة ، وأظهر لهم هذه الثقة .
ثانياً : اجمع بين الحلم
والحزم ، وبين اليقظة والثقة ، وبين الضبط الإداري والمرونة في التطبيق ، وعالج العثرات
بحكمة وعقلانية ورويّة .
ثالثاً : أشعر فريقك دومًا
بأهميته ، وارفع من معنوياته ، وراع فروقه الفردية ، وشجعه باستمرار ، واشكره على
جهوده ، وادعم مشاريعه ، وكافئه على إنجازاته ، وساهم في النهوض بالمتعثر ، وناضل
من أجل فريقك بعلم وعدل بكل ما أوتيت من قوة .
رابعًا : درّب فريقك على
أن يقدموا لك الحلول ، وألا يكتفوا بمجرد عرض المشكلات .
خامسًا : أشرك فريقك في معلوماتك
ومهامّك وقراراتك وتقييم أدائك ، واصنع من مدرستك أسرة صالحة متماسكة بمعلميها
وإدارييها وطلابها .
سادسًا : كن قدوة صالحة
في أدائك وعملك ، وساعد من معك حتى يكونوا قادة مؤثرين في شتى الميادين .
نسأل الله أن يبارك في مدارسنا كلها ، وأن
يجعلها منارات للخير ، وأن يجعل عامنا هذا عامًا مباركًا ، وأن يوفقنا فيه لكل خير
.