الاثنين، 24 مايو 2021

تحقيق الكلام في سماع ابن الحدَّاد من النَّووي الإمام

تحقيق الكلام في سماع ابن الحدَّاد من النَّووي الإمام [1]

بقلم: عبد الله بن محمَّد سعيد الحسيني

الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعدُ:

فهناك رأيان حول سماع الشَّيخ محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن علي بن مُجلِّي ابن الحدَّاد الصَّالحي الدِّمشقي الحنفي (666 هـ-757 هـ) [2] من الإمام محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي (631 هـ - 676 هـ)، وهما:

الأوَّل: أنَّ ابن الحدَّاد ممَّن رأى الإمام النَّووي، ولَقِيَهُ، وصَحِبَهُ، وسَمِعَ منه، ورَوَى عنه.

ومُستند هذا الرَّأي ما يلي:

1-أنَّ ابن الحدَّاد قاله وصرَّح به، حيث كان يَذكُرُ أنَّه رأى الإمام النَّووي، وسَمِعَ منه.

قال الحافظ أبو الفضل الزَّين العراقي [3]:

(كان يَذكُرُ أنَّه رأى الشَّيخ محيي الدِّين النَّووي، وسَمِعَ منه) ا.هـ.

2-أنَّ ابن الحدَّاد ضَبَطَ تفاصيل سماعه من الإمام النَّووي، وذلك حين سمَّى: الكتاب المقروء عليه (الأربعين النَّوويَّة)، ووالده القارئ.

قال الحافظ السَّخاوي [4]:

(رأيتُ أيضًا في أسانيد المجد اللُّغوي [5] صاحب (القاموس): أنَّه قَرَأَ (الأربعين) للشَّيخ -يعني: النَّووي- على محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن أبي الحسن علي بن طاهر بن بركات الدِّمشقي، عُرف بابن الحدَّاد، بمنزله على مقربة من جامع دمشق [6]، بسماعه لها بقراءة والده على مؤلِّفها) ا.هـ.

المنهل العذب الرَّوي بخطِّ مصنِّفه السَّخاوي، مكتبة الشيخ زهير الشَّاويش، رقم (169)، [51]

3-أنَّ تلامذة ابن الحدَّاد الرُّواة عنه قد اعتمدوا هذا الرَّأي، واقتصروا عليه دون غيره، وعدُّوه خاتمة أصحاب الإمام النَّووي.

فقد صاغ تلميذه الحافظ شمس الدِّين محمَّد بن علي الحسيني الدِّمشقي (715هـ-765 هـ) -وهو من أهل بلده- عبارةً غاية في الدِّقة لا تصدرُ إلَّا بعد تثبُّت ومعرفة، فقال في ترجمته [7]:

(خاتمةُ أصحاب الشَّيخ محيي الدِّين النَّووي) ا.هـ.

وذَكَرَ تلميذه العلَّامة القاضي مجد الدِّين محمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي اللُّغوي (729هـ -817 هـ) أنَّه يروي كتاب (الأربعين النَّوويَّة) عنه بسماعه له بقراءة والده على المؤلِّف، كما تقدَّم [8].

4-أنَّ سماع ابن الحدَّاد منه ممكنٌ جدًّا، فالشَّيخ جمال الدِّين داود بن إبراهيم ابن داود ابن العطَّار الدِّمشقي (665 هـ-752 هـ) مَثَلًا معدودٌ ضمن تلامذة الإمام النَّووي الذين رووا عنه وأجازهم [9]، وسَنة ولادته كما ترى مقاربة جدًّا لسَنة ولادة ابن الحدَّاد.

وقد ذهب إلى هذا الرَّأي جماعة من الأئمَّة، منهم: المقريزي [10]، والسَّخاوي [11].

الثَّاني: لم نقف على ما يثبت سماع ابن الحدَّاد من الإمام النَّووي.

ومُستند هذا الرَّأي ما حكاه المؤرِّخ صلاح الدِّين الصَّفدي في ترجمته، فقال [12]:

(أخبرني ولده الأمير ناصر الدِّين محمَّد أحد البريديَّة بدمشق، قال: توجَّهتُ مع والدي إلى عند قاضي القضاة تقي الدِّين السُّبكي -رحمه الله تعالى-، وقال له وأنا أسمعُ: إنَّ والده أحضره إلى الشَّيخ محيي الدِّين النَّواوي -رحمه الله تعالى- بالرَّواحيَّة وهو أمردٌ؛ ليشتغل عليه، فقال له: هذا صبيٌّ أمردٌ، وأنا مذهبي أنَّ النَّظر إلى الأمرد حرامٌ مطلقًا، ولكن توجَّه به إلى تاج الدِّين الفزاري، فأخذه والده وجاء به إلى الشَّيخ تاج الدِّين وهو يشتغل في الجامع الأموي، أو كما قال) ا.هـ.

وقد ذهب إلى هذا الرَّأي جماعة من الأئمَّة، منهم: أبو الفضل الزَّين العراقي [13]، وتقي الدِّين الفاسي [14].

فإنْ صَحَّت هذه الحكاية [15]، فإنَّها لا تتعارض مع ما تقرَّر في الرَّأي الأوَّل؛ لأنَّ ابن الحدَّاد سمع منه بعد ذلك بقراءة والده ومعيَّته، ثمَّ النَّظر إلى الأمرد للتَّعليم ونحوه يُباح بقدر الحاجة، كما نصَّ عليه الإمام النَّووي نفسه [16].

وبهذا تظهر قوَّة الرَّأي الأوَّل ووجاهته الذي يقرِّر ثبوت صحبة ابن الحدَّاد للإمام النَّووي وسماعه منه وروايته عنه، كما أنَّه داخلٌ بلا ريب في إجازته العامَّة لأهل العصر.

والله تعالى أعلم.

وصلَّى الله على نبيَّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

------------------

[1] الفضل -بعد الله تعالى- في إفراد هذه المقالة المتواضعة لفضيلة الشَّيخ شبيب بن محمَّد العطيَّة في مدارسة علميَّة جرت بيننا، فجزاه الله تعالى خير الجزاء.

[2] انظر ترجمته في: (ذيل العبر) (4/173) للحسيني، و(أعيان العصر وأعوان النَّصر) (5/568-571)، و(الوفيات) (2/194)، و(تاريخ ابن قاضي شهبة) (3/112)، (الدُّرر الكامنة) (6/191)، و(قلادة النَّحر) (6/277).

[3] (الذيل على ذيل العبر) (ص 202) له، وانظر: (تاريخ ابن قاضي شهبة) (3/112)، و(الدُّرر الكامنة) (6/191).

[4] (المنهل العذب الرَّوي) (ص 131)، وعدَّد الحافظ المقريزي في (درر العقود الفريدة) (3/174) و(المقفى الكبير) (7/260) مسموعات شيخه الفيروزآبادي بدمشق، فقال: (ومن: يحيى بن علي بن مُجَلِّي ابن الحدَّاد الحنفي (الأربعين النَّواويَّة) عن النَّووي) ا.هـ.

[5] هو الإمام العلَّامة إمام اللُّغة القاضي أبو طاهر وأبو عبد الله مجد الدِّين محمَّد بن يعقوب بن عمر الفيروزآبادي الشِّيرازي الشَّافعي (729 هـ -817 هـ).

[6] كانت قراءته عليه وإجازته له في شهر شوَّال سنة 757 هـ، كما في (قلادة النَّحر) (6/277)، وقال في (بصائر ذوي التَّمييز في لطائف الكتاب العزيز) (6/37): (أخبرني المُسنِد المعمَّر الشَّيخ محيي الدِّين أبو زكريَّا يحيى بن مُجلِّي ابن الحدَّاد، عن الشَّيخ أبي زكريَّا ‌يحيى النَّواوي، أبي محمَّد ابن قُدامة، عن أبى حفص بن طبرزذ، عن أبي الفتح الكروخي، عن القاضي أبي عامر، عن أبي محمَّد الجرَّاحي، عن أبي العبَّاس المحبوبي، عن أبى عيسى التِّرمذي، عن عبد الله بن أبي زياد، عن يسار، عن عبد الواحد بن زياد، عن عبد الرَّحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لَقِيتُ إبراهيم ليلة أُسريَ بي، فقال: يا محمَّد، أقرئ أمَّتك منِّي السَّلام، وأخبرهم أنَّ الجنَّة طيِّبة التُّربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأنَّ غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، قال التِّرمذي: حديث حسن) ا.هـ، وقد ساق الإمام النَّوويُّ هذا الحديث بالإسناد المذكور في كتابه: (تهذيب الأسماء واللُّغات) (1/272-273).

[7] (ذيل العبر) (4/173).

[8] أفادني فضيلة الشَّيخ شبيب بن محمَّد العطيَّة -لا حرمنا الله فوائده- بأنَّ الفقيه عفيف الدِّين عبد الله بن محمَّد بن أبي بكر الهمداني قرأ كتاب (منهاج الطَّالبين) سنة 829 هـ على شيخه الفقيه عبد الولي بن محمَّد الخولاني، ثمَّ قال العفيف: (يروي -يعني: شيخه الخولاني-الكتاب المذكور عن شيخه الإمام قاضي القضاة مجد الدِّين بروايته عن الشِّيخ يحيى بن مُجَلِّي ابن الحدَّاد عن الإمام النَّووي، ويروي سائر مصنَّفات الإمام النَّووي بهذا السَّند المذكور) ا.هـ.

[9] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الدُّرر الكامنة) (2/219): (وُلد في شوَّال سنة 665 هـ، فأجاز له: ابن عبد الدَّائم، والنَّجيب، والنَّووي، وابن مالك، وغيرهم) ا.هـ، وذكره الحافظ السَّخاوي ضمن من أخذ عنه في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 130)، وقال في (الذَّيل التَّام) (1/121): (أخو العلاء تلميذ النَّووي، بل هو أيضًا تلميذه) ا.هـ.

[10] (درر العقود الفريدة) (3/174)، و(المقفى الكبير) (7/260).

[11] (المنهل العذب الرَّوي) (ص 131-132، 152).

[12] (أعيان العصر وأعوان النَّصر) (5/569)، وذكره اختصارًا غير واحد.

[13] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني أثناء ترجمة ابن الحدَّاد في (الدُّرر الكامنة) (6/191): (وكان يَذكُر أنَّه رآه، وأنَّه سمع منه، قال شيخُنا العراقي: ولم أقف على ذلك) ا.هـ.

[14] قال في (العقد الثَّمين) (2/246) أثناء ذكره لمسموعات المجد الفيروزآبادي: (ومن يحيى بن علي بن مجلِّي بن الحدَّاد الحنفي (الأربعين النَّواويَّة)، عن النَّواوي سماعًا، بدعواه، وما قُبِلَ ذلك منه) ا.هـ.

[15] أومأ الحافظ السَّخاوي إلى وهن هذه الحكاية والنَّظر في مدى ثبوتها أثناء حديثه عن شدَّة ورع الإمام النَّووي، فقال في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 152): (وكان يرشدهم -يعني: الشَّباب- إلى التَّاج ابن الفِركاح، كما أسلفتُهُ عند ذكر الآخذين عنه، إنْ صَحَّت تلك الحكاية) ا.هـ.

[16] قال في (منهاج الطَّالبين) (ص 373): (ويُباح النَّظر: لمعاملةٍ، وشهادةٍ، وتعليمٍ، ونحوها، بقدر الحاجة) ا.هـ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق