الاثنين، 31 مايو 2021

التَّبيين لما قيَّده ابن رَزِين عن تلميذه النَّووي محيي الدِّين

 

التَّبيين لما قيَّده ابن رَزِين عن تلميذه النَّووي محيي الدِّين

بقلم: عبد الله بن محمَّد سعيد الحسيني

الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فمن الفرائد التي حفظها لنا الإمام شمس الدِّين أبو الخير محمَّد بن عبد الرَّحمن السَّخاوي (831 هـ-902 هـ): ما قيَّدَهُ الإمام تقي الدِّين أبو عبد الله محمَّد بن الحسين ابن رَزِين العامري الحموي (603 هـ-680 هـ) حول عرض كتاب (التَّنبيه) عليه من قِبل تلميذه الإمام محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شَرَف النَّووي (631 هـ-676 هـ) سنة 650 هـ، وهي السَّنة الثَّانية لقدومه إلى مدينة دمشق.

وقد قمتُ بنسخ ما يتعلَّق بذلك على الطَّريقة الإملائيَّة الحديثة، ثمَّ قابلتُ المنسوخ بنُسخ خطِّيَّة عديدة، وأثبتُّ أهمّ الفروق والتَّعليقات في الحاشية، وختمتُه بذكر شيء من الفوائد.

وعلى الله الكريم توكُّلي واعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنِّعمة، وبه التَّوفيق والعصمة.

***

جاء في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 55) للحافظ السَّخاوي نقلًا عن الإمام النَّووي ما نصُّه:

(وحَفِظتُ (التَّنبيهَ) [1] في نحو أربَعة أشهر ونصف.

قُلتُ: وعَرَضَهُ في سنة خمسِين، فقد قَرَأتُ بخَطِّ العِزِّ القاضي [2] أبي عُمَر ابن جَماعة [3]: وَقَفْتُ على ورَقةٍ بخَطِّ الحافظ عَفيف الدِّين أبي السِّيادة المطَري [4]، أنَّه شاهَدَ على نسخة صاحِبهِ الفقيه الإمام بدر الدِّين ابن الصَّائغ الدِّمشقي الشَّافعي [5] من كتاب (التَّنبيه) ما مِثالُهُ:

الحمدُ للهِ كما هُوَ أَهلُهُ.

عَرَضَ عَلَيَّ: الفقيهُ، أبو زكريَّا يحيى بن شَرَف بن مِرَى [6] النَّوَوِي من أوَّل كتاب (التَّنبيه) في الفقه هذا وإلى آخِرِهِ، مَوَاضِعَ امتَحَنْتُ بها حِفْظَهُ دَلَّتْ على ذلك[7]، وآذَنَتْ بتكرارهِ عَلَى [8] جَميعِهِ، وتحصِيلِهِ، وحِرصِهِ على العِلم، وَفَّقَنِي اللهُ وإيَّاهُ لهُ وللعَمل به.

وذلك: في مجلسٍ واحدٍ، لسَبعٍ مَضَيْن من شهر ربيع الأوَّل سنة خمسين وستمائة[9].

كَتَبَهُ:

محمَّد بن الحُسين بن رَزِين الشَّافعي.

حامدًا [لله] [10]، مُسلِّمًا [11]، مُستغفِرًا.

وابنُ رَزِين [12] هذا هو: قاضي القضاة، تقي الدِّين، أبو عبد الله، كانَ ممَّن أَخَذَ عن ابن الصَّلاح، ودَرَّسَ بالشَّامِيَّة الحُسَاميَّة [13]، وأَمَّ بدار الحديث الأشرفيَّة[14]، ثمَّ وَلِي قضاء مِصر، وكان كبير القَدر، جميل الذِّكر، مات بَعد الشَّيخ بأربع سنين، في رجب سنة ثمانين.

قال شيخُنا في (رَفع الإِصر) في ترجمته [15]: رَوَى عنه: الدّمياطِي، والبدر ابن جماعة، ومِن قَبلِهما: الشَّيخُ مُحيي الدِّين النَّووي، انتهى كلامُ شيخِنا [16].

وأَخَصُّ من هذا أنَّ الشَّيخ نَقَلَ عن ابن رَزِين في (الأُصُول والضَّوابط) [17] [مع أنَّ وفاته تقدَّمَتْ على وفاة ابن رَزِين، فقد كانت في رجب سنة ثمانين وستمائة بالقاهرة] [18] انتهى) ا.هـ.

المنهل العذب الرَّوي بخطِّ مصنِّفه السَّخاوي، وهو من إبرازاته الأولى

خزانة الشَّيخ زهير الشَّاويش، رقم (169) [9-10]


المنهل العذب الرَّوي بخطِّ أبي بكر الحسيني تلميذ المصنِّف، ومقابل على نسخته، وعليه خطُّه

مكتبة لاندبيرج، رقم (234) [4] 


المنهل العذب الرَّوي بخطِّ تلميذ المصنِّف، ومقابل على نسخته، وعليه خطُّه

مكتبة برلين، رقم (1742We ) [143]

المنهل العذب الرَّوي بخطِّ محمد بن محمد ابن السقا تلميذ المصنِّف

المكتبة الظاهرية، رقم (6179) [4/ب-5/أ]

***

وقد نَقَلَ الإمام النَّووي عن شيخه الإمام ابن رَزِين في موضعَين اثنَين من كتابه (رؤوس المسائل وتحفة طلَّاب الفضائل):

الأوَّل: في تحقيق المثقال الذي يُعتبر في نصاب الزَّكاة (ص 195-197)، وافتتحه بقوله:

(قال الشَّيخ تقي الدِّين ابن رَزِين، حفظه الله، ورضي عنه) ا.هـ.

والثَّاني: في استفتاء طويل حول مسألة معيَّنة (ص 200-203)، وافتتحه بقوله:

(أجاب الشَّيخ تقي الدِّين [ابن] رَزِين، رضي الله عنه) ا.هـ.



مسائل نُقلت من خطِّ الإمام النَّووي (رؤوس المسائل)

مكتبة تشستربيتي، رقم (3854) [150-151/أ]

***

ومن الأمور المستفادة ممَّا سبق:

1-أنَّ من عظيم التَّربية أن يوجِّه الشَّيخُ تلميذَهُ إلى اغتنام مواهبه، لا سيَّما في بدايات طلبه للعلم، وينصحه، ويدعو له بالتَّوفيق والسَّداد.

2-أنَّ من أجلِّ أساليب شحذ الهمم نحو القِمم أن يعتني الشَّيخُ بتحفيز تلميذِهِ، وتشجيعه، والثَّناء عليه بما هو أهلٌ له.

3-أنَّ من تمام البرِّ أن يوقِّر التِّلميذُ شيخَهُ، ويذكره بخير، وينشر علمه وفضله، ويدعو له في حياته وبعد مماته.

4-ضرورة العناية بالمتون العلميَّة المنهجيَّة حفظًا وفهمًا وعملًا وتعلُّمًا وتعليمًا.

5-أهميَّة إحياء مجالس عرض الكتب وسماعها على أهل العلم، وتقييد ذلك.

هذا والله أعلم.

وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

------------------

[1] للإمام جمال الدِّين أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشِّيرازي (393هـ-476هـ)، وكتابه هذا من الكتب المشهورة المتداولة بين السَّادة الشَّافعية، حفظهُ وشرحهُ ودرَّسه خلقٌ كثيرٌ، قال عنه الإمام النَّووي: (من الكتب المشهورات النَّافعات المباركات المنتشرات الشَّائعات؛ لأنَّه كتابٌ نفيسٌ حفيلٌ، صنَّفه إمامٌ مُعتمدٌ جليلٌ، فينبغي لمن يريد نصح الطَّالبين، وهداية المسترشدين، والمساعدة على الخيرات، والمسارعة إلى المكرمات أَن يعتني بتقريبه، وتحريره، وتهذيبه) ا.هـ، وقد اعتنى هو به عناية خاصَّة، فأفرد حوله عدَّة مصنَّفات، منها: (نُكت التَّنبيه)، و(تحرير ألفاظ التَّنبيه)، و(العمدة في تصحيح خلاف التَّنبيه)، و(تحفة الطَّالب النَّبيه في شرح التَّنبيه)، و(مختصر التَّنبيه).

[2] في نسخة مكتبة لاندبيرج: (القاضي العز).

[3] عز الدِّين أبو عمر عبد العزيز بن محمَّد بن إبراهيم ابن جماعة الكناني الشَّافعي (694 هـ- 767 هـ)، انظر ترجمته في: (المعجم المختص بالمحدِّثين) (ص146)، و(طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (10/79-81)، و(الدُّرر الكامنة) (3/176-180).

[4] عفيف الدِّين أبو السيادة عبد الله بن محمَّد بن أحمد المطري الشَّافعي (698 هـ- 765 هـ)، انظر ترجمته في: (المعجم المختص بالمحدِّثين) (ص 125)، و(طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (10/34-35)، و(الدُّرر الكامنة) (3/65-66).

[5] بدر الدِّين أبو اليسر محمَّد بن محمَّد بن عبد القادر ابن الصَّائغ الأنصاري الدِّمشقي الشَّافعي (676 هـ- 739 هـ)، انظر ترجمته في: (الوافي بالوفيات) (1/248-249)، و(طبقات الشَّافعيَّة) لابن قاضي شهبة (2/388-389)، و(الدُّرر الكامنة) (5/495).

[6] (مِرَى، مِرَا): بكسر الميم، وفتح الرَّاء الـمُهملة المخفَّفة، بعدها ألِف مقصورة تارةً، وألِف ممدودة تارةً أُخرى، وهو الضَّبط الصَّحيح لاسم جدِّه الذي لا يحتمل غيره، كما فصَّلتُ ذلك في مقالة مُفردة بعنوان: (رفع المِرَا عن ضبط اسم جدِّ الإمام النَّووي مِرَا).

[7] قال التَّاج السُّبكي في (طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (10/341) في ترجمة علاء الدِّين الباجِي (المتوفَّى 714 هـ): (وكانت بينه وبين الشَّيخ محيي الدِّين النَّووي صداقةٌ وصحبةٌ أكيدة، ومُرافقة في الاشتغال، حَكَى لي ناصر الدِّين بن محمود، صاحب الباجِي، قال حَكَى لي الباجِيُّ، قال: ابتدأتُ أنا والنَّوويُّ في حفظ (التَّنبيه)، فسبقَني إلى النِّصف الأوَّل، وسبقْتُهُ إلى خَتمهِ) ا.هـ.

[8] في المطبوع (عَلَيَّ): بعد اللَّام ياءٌ تحتانيَّة مفتوحة مشدَّدة، والصَّواب أنَّ ما بعد اللَّام ألِف مقصورة؛ وذلك حتَّى يستقيم المعنى بأنَّ المواضع التي امتَحَنَهُ فيها دَلَّتْ على حفظه، وأَعْلَمَتْ بتحقُّق هذا الحفظ وتكراره على جميع الكتاب، ومن عادة الحافظ السَّخاوي أنَّه يضبط الحرف المشدَّد تمييزًا له عن غيره، وقد أهمله هنا، والله أعلم.

[9] وعمر الإمام النَّووي يومها 19 عامًا.

[10] ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة المكتبة الظَّاهريَّة.

[11] في نسخة مكتبة لاندبيرج: (مُصلِّيًا)، مع الإشارة إلى أنَّه في نسخة كما المثبت أعلاه.

[12] انظر ترجمته في: (تاريخ الإسلام) (15/399-400)، و(العبر في خبر من غبر) (3/345-346)، و(طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (8/46-48)، و(العقد المذهب في طبقات حملة المذهب) (ص 170-171)، و(ذيل التقييد) (1/118)، و(طبقات الشَّافعيَّة) للإسنوي (1/594-596)، و(طبقات الشَّافعيَّة) لابن قاضي شهبة (2/187-189)، (شذرات الذَّهب في أخبار من ذهب) (7/642-643)، وهو من أوائل شيوخه.

[13] المدرسة الشَّامِيَّة الحُسَاميَّة: تقع في محلَّة العوينة من حي العقيبة، أنشأتها في العهد الأيوبي الخاتون ست الشَّام ابنة نجم الدِّين أيُّوب أخت الملك النَّاصر صلاح الدِّين، ودرَّس بها: ابن الصّلاح، والشَّرف ابن الزكي، وابن أبي عصرون، وابن رزين، وابن قاضي شهبة، وغيرهم، وتُعرف أيضًا بالمدرسة الشَّاميَّة البرَّانيَّة، والمدرسة الشَّاميَّة الكبرى، والمدرسة الحساميَّة نسبةً إلى حسام الدِّين عمر ابن ستِّ الشَّام، ولا يزال مبناها قائمًا، انظر: (الدارس في تاريخ المدارس) (1/208-227)، و(منادمة الأطلال ومسامرة الخيال) (ص 104)، و(خطط الشام) (6/79)، و(معجم دمشق التاريخي) (2/187).

[14] دار الحديث الأشرفيَّة: تقع بجوار باب القلعة الشَّرقي، غربي العصرونية، وشمالي القيمازية الحنفية، وكانت دارًا للأمير قايماز بن عبد الله النجمي، فاشتراها الملك الأشرف موسى بن العادل في العهد الأيوبي، وبناها دار حديث، ونجز بناؤها سنة 630هـ، ونُسبت إليه، وممَّن تولَّى مشيختها: ابن الصلاح، وأبو شامة المقدسي، والنووي، وابن الزملكاني، والمزي، والتقي السبكي، وابن كثير، والتاج السبكي، وغيرهم، وتُعرف أيضًا بدار الحديث الشَّافعية، ودار الحديث الأشرفيَّة الأولى، ودار الحديث الأشرفيَّة الدمشقيَّة، ودار الحديث الأشرفيَّة الجوَّانية، ولا يزال بناؤها قائمًا، انظر: (الدارس في تاريخ المدارس) (1/15-36)، (منادمة الأطلال ومسامرة الخيال) (ص 24-32)، و(خطط الشام) (6/71-72)، و(معجم دمشق التاريخي) (1/269).

[15] (رَفع الإِصر عن قضاة مصر) (ص 356).

[16] سقط من نسخة مكتبة لاندبيرج: (انتهى كلام شيخنا).

[17] وقفتُ عليه في كتابه (رؤوس المسائل) كما سيأتي، ولم أجده في الكتاب المذكور أعلاه، وأصل هذا الكلام للإمام الإسنوي حيث قال في (طبقات الشَّافعيَّة) (1/594): (كان إمامًا بارعًا في الفقه والتَّفسير، مشاركًا في علوم كثيرة، ويكفيك أنَّ الشَّيخ محيي الدِّين نَقَلَ عنه في (الأُصول والضَّوابط) مع تأخُّر موته عنه) ا.هـ، ثمَّ تناقله جماعة دون نسبة إليه، منهم: ابن الملقّن في (العقد المذهب) (ص 170-171) حيث قال: (ومن جلالته نَقَلَ النَّووي عنه في (الأصول والضَّوابط) مع تأخُّر موته عنه) ا.هـ، وابن قاضي شهبة في (طبقات الشَّافعية) (2/189) حيث قال: (وممَّا يدل على جلالة قدره أنَّ الشَّيخ محيي الدِّين النَّواوي نَقَلَ عنه في (الأصول والضَّوابط) مع تأخُّر وفاته عنه) ا.هـ، والسَّخاوي، وابن العماد الحنبلي في (شذرات الذَّهب) (7/643) حيث قال: (وممَّن نَقَلَ عنه الإمام النَّووي) ا.هـ، وغيرهم.

[18] ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة مكتبة برلين والظَّاهريَّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق