إتحاف الرَّاغبين
بما نقله الذَّهبيُّ عن ابن العطَّار ممَّا ليس في كتابه
تُحفة الطَّالبين
بقلم: عبد الله بن محمَّد سعيد الحسيني
الحمد لله، وسلامٌ على
عباده الذين اصطفى، وبعد:
فقد صرَّح الإمامُ الحافظُ مؤرِّخُ الإسلام شمس الدِّين أبو عبد الله
محمَّد ابن أحمد بن عثمان الذَّهبيُّ (المتوفى 748 هـ) أثناء ترجمته لشيخ الإسلام
محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي (المتوفى 676 هـ) في
عدَّة مواضع من كُتُبهِ بالنَّقلِ عن شيخه وأخيه من الرَّضاعة الإمام العالم علاء
الدِّين أبي الحَسن علي بن إبراهيم بن داود ابن العطَّار (المتوفى 724 هـ) (1)، وجُلُّها مُقتبسةٌ من كتاب شيخه: (تُحفة الطَّالبين
في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين)(2)،
الذي هو عُمدتُهُ (بل عُمدةُ كلِّ مَن أَتَى بعدَهُ) (3).
وفي كتابه (تاريخ الإسلام) ثلاثة مواضع صرَّح فيها بالنَّقل عنه ممَّا ليس
في كتاب (تحفة الطَّالبين)، وهي كالتَّالي:
الموضع
الأوَّل:
قال في (تاريخه) (15/325):
(قالَ ابنُ العطَّار: قالَ لي الشَّيخُ.. قالَ: وبَقِيتُ أكثر من شهرين أو أقلّ لمَّا قرأتُ: يجبُ الغُسْلُ من إيلاج الحَشَفَة في الفَرْج، أعتقدُ أنَّ ذلك قَرْقَرَة البطن، وكنتُ أستحمُّ بالماء البارد كُلَّما قَرْقَرَ بطني) ا.هـ. (4)
تاريخ
الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي، مكتبة آيا صوفيا، رقم (3014) [42/أ]
وفصَّل ذلك في موضع آخر، فقال (5):
(حدَّثنا الشَّيخ علاء الدِّين ابن العطَّار، قال: خَتمتُ القرآن، وبعد ذلك جرى بين الصِّبيان أنَّ الولد يكونُ من المجامعة، ويَخرجُ من الفَرْج، فأنكرتُ ذلك، وقلتُ: لا تَلدُ المرأةُ إلَّا مِن سُرَّتها! قال: واحتلمتُ وعُمري [اثنتا عشرة] (6) سنة، فبقيتُ ثمانية أشهر أَحتلِمُ، ويَبقَى المنيُّ في لباسي كالقمل، ويَشُوكُني، وأنا لا أدري! إلى يومٍ قلتُ لإنسانٍ [يُعالِجُ] (7): إنِّي أَجِدُ كيت وكيت، فوضعَ أصبعه على أنفي وجَسَّهُ، ثمَّ قال لي: بَلَغْتَ، فذَهبتُ إلى أُمِّي، وقُلتُ لها، وكانت ترى ذلك، ولا تعلم أبي، قال: فاستَفتَيتُ شيخَنا محيي الدِّين النَّووي في قضاء الصَّلوات، فقال: أُخبِرُكَ بعجيبةٍ، قَدِمتُ دمشق، وقَرَأتُ في «التَّنبيه«، فحفظتُ فيه، فلمَّا قَرأتُ: «ويجبُ الغُسْلُ على الرَّجُل من شيئين: من خروج المنيِّ، ومن إيلاج الحَشَفَةِ في الفَرْجِ«، أُلقِيَ في نفسي أنَّ إيلاج الحَشَفَةِ في الفَرْجِ إنَّما هو قَرْقَرَةُ البطن، وكُنتُ في إِيوان الرَّواحيَّة مُقِيمًا، ولا بيتَ لي بعدُ، وأَتكفَّى بخزانة المدرسة، فكُنتُ كُلَّما وَجَدتُ قَرْقَرَةً، ذَهَبتُ إلى طهارةِ جَيرُون أَغتسِلُ، ورُبَّما تمَّ ذلك غير مرَّة في اليوم، - قال الشَّيخ علاء الدِّين: وكان عُمر الشَّيخ إذا ذاك عشرين سنة أو [تسع عشرة] (8) - قال: وبَقِيتُ أَغتسِلُ مِن ذاك مُدَّة حتَّى عَرَفتُ) ا.هـ.
الفرائد
والفوائد الملتقطة من تذكرة البرهان ابن جماعة بخطِّ الحافظ ابن طُولُون، مكتبة تشستربيتي
(3101) [291/أ]
الموضع
الثَّاني:
قال في (تاريخه) (15/330):
(وعَزَمَ عليه الشَّيخُ برهان الدِّين الإسكندرانيُّ أن يُفطرَ عنده في
رمضان، فقال: أَحضِرِ الطَّعامَ إلى هُنا، ونفطرُ جُملةً، قالَ أبو الحَسن: فأَفْطَرْنا
ثلاثَتنا (9) على لونَين من طعام أو أكثر، وكان
الشَّيخُ يَجمَعُ إدامَين بعض الأوقات) ا.هـ. (10)
تاريخ
الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي [45/أ]
الموضع
الثَّالث:
قال في (تاريخه) (15/332):
(وحَكَى لنا الشَّيخُ أبو الحسن ابن العَطَّار أنَّ الشَّيخَ قَلَعَ ثوبَهُ،
فَفَلَاهُ بعضُ الطَّلبةِ، وكان فيه قَمْلٌ، فَنهاهُ، وقالَ: دَعْهُ) ا.هـ. (11)
تاريخ
الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي [46/ب]
***
وهذه المواضعُ الثَّلاث التي صرَّح فيها الحافظ الذَّهبيُّ بالنَّقل عن
شيخه الإمام ابن العطَّار ممَّا ليس في كتاب (تحفة الطَّالبين) -وكذلك مواضع أخرى
في هيئة الإمام النَّووي وصفاته وشؤونه وأحواله، هي منقولةٌ عنه بلا ريب وإن لم
يُصرِّح بذلك-، قد تَلَقَّاها مُشافَهةً سَماعًا منه بدلالة صيغ التَّحديث التي ذكرها (حدَّثنا، حَكَى لنا)، وذلك -فيما يظهرُ لي- أثناء
قراءة الكتاب عليه (12)، لا سيَّما أنَّ ابن العطَّار اقتصَرَ فيه على ذِكر بعض مناقب
شيخه وأحواله، ونصَّ على أنَّ وقائعه معه والأمور التي رآها منه تَحتملُ مجلَّدات،
فقال في المقدّمة (ص 37): (فلمَّا كان لشيخي وقُدوتي إلى الله تعالى، الإمام الرَّباني
أبي زكريَّا يحيى بن شرف الحِزَامي النَّواوي -تغمَّده الله برحمته، وأسكنه جنَّات
النَّعيم، وجَمَعَ بيني وبينه في دار كرامته، إنَّه جواد كريم- عليَّ من الحقوق
المتكاثرة، ما لا أطيق إحصاءها؛ بَعَثَني ذلك على أن أَجمَعَ كتابًا في بعض مناقبِهِ،
ومآثرِهِ، وكيفيَّة اشتغالِهِ، وما كان عليه من الصَّبر على خُشونة العيش، وضِيق الحال،
مع القدرة على التَّنعُّم والسَّعة في جميع الأحوال) ا.هـ، وقال (ص 97): (وجَرَى لي
(13) مَعَهُ وقائع، ورَأَيتُ منه أُمورًا تَحتملُ
مجلَّدات) ا.هـ.
هذا والله
أعلم.
وصلَّى
الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
------------
(1) انظر: (سير
أعلام النُّبلاء) (ص 340-344)، و(تاريخ الإسلام) (15/324-332)، و(تذكرة الحفَّاظ)
(4/174-176).
(2) هذا هو العنوان
الصَّحيح التَّام للكتاب، كما في النُّسخة الخطِّية النَّفيسة المحفوظة بخطِّ أخيه
داود ابن العطَّار والتي قُوبلت على نسخة المصنِّف، وقد وَصَفَ الحافظ الذَّهبيُّ
هذا الكتابَ بوصفَين دقيقَين، أحدهما: يتعلَّق بعدد كراريسه، حيث قال في (تذكرة الحفَّاظ)
(4/175)، و(سير أعلام النُّبلاء - الجزء المفقود) (ص 342) ما نصُّه: (وقد جَمَعَ
ابن العطَّار سيرته في ستِّ كراريس) ا.هـ ، وهذا العدد قريبٌ جدًّا من نسخة داود
التي تقع في نحو خمس كراريس، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار تفاوت حجم الأوراق
والخطوط وعدد الأسطر من ناسخ لآخر، وثانيهما: يتعلَّق بالمراثي التي فيه، حيث قال
في (تاريخ الإسلام) (15/332) ما نصُّه: (وقد رثاهُ غيرُ واحد يبلغون عشرين نَفْسًا
بأكثر من ستّمائة بيت، منهم: مجد الدِّين ابن الظّهير، وقاضي القضاة نجم الدِّين
ابن صَصْرَى، ومجد الدِّين ابن المهتار، وعلاء الدِّين الكِندي الكاتب، والعفيف
التِّلمساني الشَّاعر) ا.هـ، وهذا العدد يكاد يتطابق مع نسخة داود التي بلغ فيها
عدد من رثاه 22 نفسًا، وعدد أبيات جميع
المراثي 631 بيتًا.
تنبيه: أَدرجَ الحافظ السَّخاويُّ في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 221) في كلام الحافظ الذَّهبي عن المراثي هنا ما نصُّه: (أَوردَ الكثير من ذلك ابنُ العطَّار) ا.هـ، ثمَّ قال (ص 223): (وأَوهمَ كلامُ الذَّهبي أنَّ مجموع ذلك لم يُورده ابن العطَّار، بل أكثره، وكأنَّه لم تقع له النُّسخة المُوفية) ا.هـ.
(المنهل
العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي، خزانة الشَّيخ زهير الشَّاويش،
رقم (169) [118، 119]
قُلتُ: ليس الأمر كما قال، بل اطَّلعَ الحافظ
الذَّهبيُّ يقينًا على الكتاب كاملًا بمراثيه بدلالة الوصفَين السَّابقَين، وأمَّا
ما أدرجه الحافظ السَّخاويُّ في كلامه، فلم نقف عليه في نُسخة (تاريخ الإسلام)
المحفوظة بخطِّه، ولا في طبعاته المحقَّقة التي بين أيدينا، والظَّاهر أنَّه حاشية
لغيره أُدرِجَت في كلامه، والله أعلم.
تاريخ
الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي [46/ب]
(3) قاله الحافظ
السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 181).
(4) قال الحافظ
السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 56): (وأَدْرَجَ الذَّهبيُّ في تاريخ
الإسلام في كلام ابن العطَّار هُنا ممَّا لم أرَهُ في النُّسخة التي وقفتُ عليها)،
فساق النَّص أعلاه، ثمَّ قال: (والظَّاهرُ أنَّ الحياء كان يمنعُهُ السُّؤالَ عن ذلك)
ا.هـ.
(المنهل
العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [10]
قُلتُ: قد حصل هذا الموقف للإمام النَّووي أوَّل قدومه إلى مدينة دمشق سنة
649هـ تقريبًا مع بدايات طلبه للعلم وإقباله على حفظ كتاب (التَّنبيه)، وأراد بتلك الحكاية العجيبة أن يُؤانس تلميذه، ويُلاطفه،
ويُسكِّن من رَوعه، ويَرفق بحاله، ويُبيِّن له أنَّ مثل هذا لا يَسلمُ منه أحدٌ،
وهذا السُّلوك التَّربويُّ يندرج ضمن ما دوَّنه ابن العطَّار عن علاقة شيخه
به، فقال في كتابه (تحفة الطَّالبين) (ص 52-53): (كان رحمه الله رفيقًا بي، شفيقًا
عليَّ .. مع مراقبته لي رضي الله عنه في حركاتي وسكناتي، ولُطفِهِ بي في جميع ذلك،
وتواضعه معي في جميع الحالات، وتأديبه لي في كلِّ شيء حتَّى الخطرات، وأعجزُ عن
حصر ذلك) ا.هـ، والله أعلم.
(5) هذا النَّصُّ الفريد
منقول من خطِّ الحافظ ابن طُولُون في كتابه: (الفرائد والفوائد الملتقطة من تذكرة
العلَّامة البرهان إبراهيم بن جماعة الشَّافعي) المحفوظ في مكتبة تشستربيتي برقم
(3101) [291/أ]، عن (تذكرة ابن جماعة) بخطِّه، عن شيخه الحافظ الذَّهبي، عن شيخه
وأخيه من الرَّضاعة علاء الدِّين ابن العطَّار، وأفادني به مشكورًا مأجورًا
الشَّيخ المحقِّق المفيد د. محمَّد بن عبد الله السّريّع، لا حرمنا الله درره.
(6) في الأصل: (اثنا عشر)، والصَّواب المثبت أعلاه ما بين المعقوفتَين.
(7) في الأصل: (يلاج)،
ولعلَّ الصَّواب المثبت أعلاه ما بين المعقوفتَين، كما أفادني بذلك فضيلة شيخنا
الجليل العلَّامة المحقِّق نظام يعقوبي العبَّاسي، حفظه الله تعالى ونفعنا به
وبعلومه.
(8) في الأصل: (تسعة عشر)، والصَّواب المثبت أعلاه ما بين المعقوفتَين.
(9) في (المنهل العذب
الرَّوي) بخطِّ الحافظ السَّخاوي: (ثلاثِين)، والصَّواب المُثبت أعلاه من خطِّ
الحافظ الذَّهبي.
(10) قال الحافظ
السَّخاوي في «المنهل العذب الرَّوي« (ص 147-148): (وفيما أَدْرَجَهُ
الذَّهبيُّ في كلام ابن العطَّار ممَّا لم أَقف عليه في النُّسخة التي وقفتُ عليها)ا.هـ،
فساق النَّص أعلاه.
(المنهل
العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [61]
(11) قال الحافظ
السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 150): (وقَلَعَ ثَوبَهُ، فَفَلَاهُ بعض الطَّلبة، وكان فيه قملٌ، فنهاهُ، وقال: دَعْهُ)
ا.هـ، ولم يُشر إلى أنَّه من إدراج الذَّهبي في كلام ابن العطَّار ممَّا لم يقف
عليه في (تحفة الطَّالبين).
(المنهل
العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [62]
قُلتُ: قد نصَّ الإمام النَّووي في (المجموع) (7/317) و(منهاج المحدِّثين
وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري)
(11/185) على استحباب قتل القمل وغيره من المؤذيات، وجواز تفليته من الرَّأس أو من
غيره وقتله، وأراد بهذا الموقف أن يُبيِّن له أنَّه يَتولَّى ذلك بنفسه دون خدمةٍ
من أحد، وهذا ممَّا حكاهُ عنه تلميذه ابن العطَّار، فقال في كتابه (تحفة
الطَّالبين) (ص 52): (لا يُمكِّن أحدًا من خدمتِهِ غيري على جَهدٍ منِّي في طَلَبِ
ذلك منهُ) ا.هـ، والله أعلم.
(12) كان الإمام ابن العطَّار ممَّن يعتني بإقراء كُتُبِهِ في مجالس القراءة
والسَّماع، ومنها هذا الكتاب، فقد وَقَفَ الحافظُ السَّخاويُّ كما في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 181-182) على نُسخةٍ
منه بخطِّ تلميذِهِ: محمَّد بن محمَّد بن زكريَّا بن يحيى بن مسعود بن غنيمة السُّوَيداوي
القدسي (المتوفى 731 هـ)، كَتَبَهَا: بالخانقاه
السُّميساطيَّة بدمشق، وسمعها على مؤلِّفها بمنزله بدار الحديث النُّوريَّة بدمشق قبل وفاته بأشهر، بقراءة: المحدِّث ناصر الدِّين أبي عبد الله محمَّد بن
طغريل بن عبد الله ابن الصَّيرفي (المتوفى 737 هـ)، سوى ورقتين، فبقراءته، وذلك في ثلاث
مجالس، آخرها: يوم الأربعاء 16 من شهر ربيع الآخر
سنة 724 هـ، وصحَّحَ المؤلِّف بخطِّهِ.
(المنهل العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [87]
(13) سقطت كلمة (لي)
من المطبوع، وأثبتُّها من النُّسخة الخطِّيَّة المعتمدة فيه المحفوظة بخطِّ أخيه
داود [12/أ].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق